صوت واحد فقط
Updated: Feb 28, 2021
لكل شيء صوت.. للهفتك صوت، لليل صوت، للسماء صوت، للحب صوت وللفقد صوت، للغضب صوت وللأمان صوت. ثم، تختلط تلك الأصوات، تتماهى، حتى لا تعود تميز أحدها عن الآخر.. ثم تكون أقرب للضجيج. لا تدري أهي ابتعدت عنك أم أنت من ابتعدت.. ثم، وكأنها اختفت. هل اختفت فعلاً أم أنك لم تعد تسمعها؟.. وتنتظر ذلك الصوت.. صوت واحد فقط، يأتي ويأذن لك أن تستمع لتلك الأصوات من جديد.. صوت ذلك النهر.

انتهيت من تجهيز حقيبة صغيرة. اخترت أن تكون صغيرة لأن أمامي رحلة طويلة اقطعها ولا أريد أن أثقل على نفسي الحمل. ولكن كانت الصعوبة فيما أقرر حمله داخل هذه الحقيبة وما أقرر الاستغناء عنه، وان قررت حمل الكثير سيكون كتفاي هم الضحية. حرصت أن يكون فيها ما أتكئ عليه، لأننا في رحلاتنا وارتحال أرواحنا نحتاج هذا الاتكاء، ما يشد وتد أرواحنا. وهنا اخترت "الذكريات". أحببت خدعة السيطرة التي اكتسبتها وكأن كل ما أدخله للحقيبة متاح له التسكع في دهاليز الذكرى، وما اختار اقصاؤه سيتلاشى ولو بعد حين.
كنت متجهة إلى أسطورة، خط السير فيها زمنياً بكيلومتراتٍ زمنية. فيُحكى أن هناك نهر.. نهرٌ بعيد، اشبه بنهر مقدس. والغريب أنه لم يطلق عليه اسم حتى الآن. لأن هذا النهر يكون لك ما تريد فأخذ كل شخص يسميه بما يريد. فكرت بتسميته بنهر الأسماء العديدة أو التعاريف المختلفة. يُقال أنه إن وصلت لهذا النهر وأخذت أحد الأحجار حوله ثم ضممتها لصدرك بيديك واغلقت عينيك ثم تخيلت ما تريد فسيتحقق فوراً. يا إلهي ما أكثر القصص والأقاويل التي نُشرت وقيلت عن هذا النهر ولكن أغربها أن من وصلوه وقد ابيضت رؤوسهم كانوا يريدون أن يعودوا لما كانوا، لبداية خط السير.
كنت أعلم بأن علي قطع صحراء بمد البصر للوصول لذلك النهر. صحراء ربما أفقد فيها الكثير، ربما لا أرى أحد، ربما أقضي الليالي وحيدة، ربما ستفوتني الكثير من البهجة، والكثير من الأيام التي أعبر بجانبها لا من خلالها. ربما سأنسى كيف تبدوا الكثير من الأشياء، أو ربما كيف أرى الأشياء. ولكنني هممت بالرحيل على أية حال.
مشيت ومشيت ومشيت. وفي مراحل ما كنت أراه أمامي، أراه شديد الوضوح. ولكن ما إن البث إلا واكتشف بأنه خُيل لي. وأن شمس الصحراء أخذت تسفعني وأنه سرابٌ كالحقيقة. لم اكترث لحركة الشمس، كانت تبدو بطيئة، ولم اكترث لكثافة الرمال. واستحالت الكيلومترات الزمنية ربما لسنين، واخذت حركة الشمس تبدو أسرع، والنهارات أقصر، والغوص في الكثبان الرملية يتطلب جهداً مضاعفاً. وفي لحظة ما استدرت للخلف، واذ لم يعد الرجوع متاحاً وكأن بابٌ أُغلق خلفي، وكأن كل شيء ورائي لم يعد يشبهني أو ما عدت أشبهه. وارتأيت بأن المواصلة هي الحل، من أجل تلك اللحظة التي لا أعلم بالضبط كيف ستكون، علي أن لا أتوقف. حتى إني لم ادرك كفايةً ما مررت به، هل كان هناك أحد يسير بجاني، هل مررت بزهور أو حلقت فوق رأسي طيور، أو ربما كانت هناك علامة تشير لطريق مختصرة ( يا إلهي ما زلت أفكر بالطريق) فواصلت المشي، حتى شعرت بأن الكيلومترات استهلكت نفسها برتابتها الثابتة وكأنها لا تتغير، وكأنها متوقفة.. وتحول كل شيء إلى كتله من المألوف، حتى حرارة الشمس المزعجة. نعم، سأتوقف هنا، ربما لبعض الوقت. ولكن بعد فترة بدأت اتشكل كالأشجار حولي، أخذت أشبههم. وبدأ لوني يستحيل للون الرمال، بدأ اللون بقدماي وأخذ بالصعود. وفجأة ولوهلة أعيد شريط كامل أمام عيني، صورٌ وصور وصور.. اردت اللحاق بها.. مهلاً.. أهذا من أجل الطريق؟، أهذه أنا؟، (صوت بناء).. بهذا الصوت استيقظت من هذا الحلم، كان صوتاً لبيتٍ قرر أصحابه بأنه حان الوقت أن يُهدم، ربما يريدون إعادة بنائه. ولكنني شتت ذلك الصوت وهممت مسرعة لمكتبي لأكتب رسالة لتلك التي رأيتها في الحلم، لا أعلم من هي، ربما كانت أنا.
للأنا التي هناك، تنتظر. أنا أيضاً اعتقدت بأني لتوي بدأت برحلة البحث هذه (حين كنت أجهز حقيبتي) ولكنها في الحقيقة بدأت منذ ولادتي. في صغري لم اكترث بالوقت بل إني تحايلت على الزمن لأشعر بأني تخطيته. ارتديت الأحذية التي تكبرني بكثير ذات الكعب العالي، ولطخت شفتاي بأحمر الشفاه، ومشيت متباهية ظناً مني بأني تغلبت على الزمن.. كنت أسابقه، سباق أشبه بلا شيء خلفي وكل شيء ينتظرني.... وأثناء انتقالي شيئاً فشيئاً لعالم الكبار، تفاجأت بجدية هذا العالم وكأنه عالم روبوتي، أُدخلت فيه المعلومات وتم العمل على أساسها دون أسئلة ولا تشكيك.. مشيٌ روبوتي قد أصاب الجميع. وتساءلت: لماذا يخلوا هذا العالم من خيالاتي السابقة لهذا الحد. لماذا كل فكرة تراودني تبدو غريبة على هذا العالم.. وغضبت، غضبت جداً. أين ما وُعدنا برؤيته؟ لماذا نكث العالم وعده، أين الحياة الوردية والأحلام التي سنجدها بانتظارنا، وانتصاراتنا التي ستكرر كالأبطال الخارقين؟ أين السحر الذي كنا نراه وننتظره؟.. لقد سألت هذا العالم كثيراً واستنطقته في أكثر اللحظات التي أردت فيها استعادة وعيي. ولكن لماذا يسير هؤلاء رغم خلو هذا العالم من كل ذلك؟.. صرخت: هيييه توقفوا، هذا العالم لا يعبأ بكم.. ولكن.. لم يسمعني أحد.!.. وبعد فترة انضممت إليهم، وأصابني ما أصابهم.
ربما بسبب كل القصص التي أُخبرنا بها، بكل هذا البهاء الذي ينتظرنا، أصبحت تُقضى أيامنا بين بحث وانتظار، أو أننا أدمنا الانتظار.. ولكن لو أن انتظارنا كان عبارة عن جلوس على كرسي أمام كل الطرق ومفترقها، ربما لأصبحنا أشد انتباهً.. ولكنه انتظارٌ لاهث، أن لا ترى شيء رغم مرورك بكل شيء. ربما هذا ما يجعلك تستمر.. تستمر بالمشي وعينيك محدقة بدقة تراقب ارتسام ذلك النهر، تراه حيناً ويختفي أحياناً. ولكن، ما إن تلبث أن تكتشف بأنه سراب رٌسم بإتقان ليجعلك تواصل المسير دون توقف.. وإنه فخ، والانتظار فخ.. وأن أحداً لم يصل، منهم من قرر التوقف وربما أُجبر عليه، ومنهم من واصل المسير على أية حال.. ولكنهم لم يصلوا.. وإن وصلوا فإنهم لم يصلوا، لأنهم أرادوا أن يبحثوا عن نهر آخر ربما أشد قداسة، أو انهم تساءلوا: أهذا كل ما هنالك؟، أو ربما كأغرب الأقاويل التي سمعتها أنهم طلبوا أن يعودوا كما كانوا في بداية خط السير.. ربما لأننا ندرك ما نحتاجه فعلاً حين نمتلك ما نريده.. فهل هذا يعني أنهم وصلوا؟!
ربما لأننا ندرك ما نحتاجه فعلاً حين نمتلك ما نريده
أشعر بأن كلماتي بدأت تبدوا مثل كامو في أسطورة سيزيف، هل تعرفونها؟.. سيزيف هو شاب حٌكم عليه أن يدفع حجراً كبيراً ربما صخرة لأعلى الجبل وكلما كان يبلغ قمة الجبل تنحدر الصخرة إلى السفح، فيعود ليدفعها إلى قمة الجبل مره أخرى، ثم تعود لتسقط، وهكذا إلى مالا نهاية. القصة هي عن تساؤل اللاجدوى حين يتقاطع عالم غير مفهوم مع إنسان راغب بالفهم. ولكن رغم أن كامو يقول بأن حتى لو كان العالم كذلك فهذا لا يجعله غير جدير بالتجربة، وأنه دوماً ما يدعو البشر للعيش حتى وسط الصحراء.. صحراء تشبه التي كنت فيها، أبحث، وانتظر.. ولكني لا أوافق كامو في مدى عبثية هذا العالم.. لأنني لا أفضل الابتعاد ولا التخلي عن بشريتنا.. وبشريتنا تعشق المعنى. نحن كائنات مدمنة على المعنى.. والمعنى يغلف على شكل قصة، والقصة الجيدة تدور حول المتاعب، وغالباً حين يرغب أحد ما في شيء ما بقوة، ربما لذلك نجد المعنى فيها.. فحين تمشي هكذا بهدوء دون شيء وبلا شيء، دون خطر ووحوش وأنهار، تبدأ في تخيلها ورؤيتها وحتى اختراعها. كما يقول غوتشل في كتابه "الحيوان الحكاء" أن البشر كائنات قصصية. نحن نحكي القصص لأنفسنا طوال الوقت.. قصص تجعلنا نمشي، ننتظر، وربما لم نحكي قصة واحدة تجعلنا نقف. يقول غوتشل في كتابه بأنه بينت تجربة كولشوف مخرج الأفلام الروسي الذي أنتج فيلم حول صور غير مترابطة وعرضه على الناس وراقب ردود فعلهم وسألهم حوله، مدى كرهنا لأن نكون بلا قصة، ومدى عملنا بحماس لفرض بنية قصصية على مزيج بلا معنى. فالعقل الحكاء عقل مدمن على المعنى ولا يستطيع استيعاب العشوائية وانعدام النظام. لذلك للعقل البشري قابلية عالية لاختراع المعنى عنوة وإقامة العلاقات، ووصل النقط بقصص تُحكى. فربما كان البحث عن المعنى هو المعنى ذاته.
مهلاً، هل تلك الأنا ارادت فعلاً أن تنتظر تلك اللحظة، لحظة رؤية ذلك النهر. أرادت تلك القصة؟ هل كان هذا حقاً ما تريده؟ أم أنه كان الجواب البديهي لهذا العالم، حين يُسأل كل من يدخله عند بوابة الدخول، ماذا تريد؟ أريد رؤية النهر.. حسناً، تفضل. فكيف اكتسب هذا الانتظار قداسته، واتيح له استهلاك الكيلومترات الزمنية بقدر ما يريد، وأن تتركز الأعين نحوه، دون سواه. فكيف تُدرج المعاني في عقولنا لطريق ما دون آخر؟ فبحسب فلسفة بول أوستر مؤلف (١٢٣٤) فإن التفاصيل الهامشية والممكنات التي قد تقودها الصدف أحياناً لها دور لا يُهمش. فلو قمنا بتثبيت الزمان والمكان والعائلة وربما كل الأشياء التي تورث، وغيرنا تلك التفاصيل التي مقارنةً بما تم تثبيته فهي متناهية الصغر، فربما ستقودك هذه التفاصيل الصغيرة لصورة أخرى لك. ربما بكل الطرق ستصل، ولكن بأي صورة ستكون حينها؟ ستكون بمثابة اجتماع مليون قطعة صغيرة، كانت متناثرة.
هي أرادت أن تستعيد لهفة البدايات، الإحساس بروح الأشياء، وأن تتخلص من وطأة المألوف. كان الانتظار يكفل لها ذلك، خيالٌ كلما أغمضت عينيها، فألفته وكأنه حصن أمان يقيها واقع أثقل سمعة طنين التشابه والرتابة. ولكن ما هناك مختلف، جديد، حتى إني حينها سأرى كل شيء بعين أخرى، عين ربما تطمع في الخلود ليتمد ذلك الشعور إلى مالا نهاية بحواسٍ مختلفة سأمتلكها. ولكنها تشكلت بالزمن واكتسبت سماته التي أهداها إياها، لم تكن تريدها ولكنها أصبحت منها في نهاية المطاف.
لقد استهلكت الكثير من الكيلومترات الزمنية. لأكتشف أن المغزى في المشي ولا بأس بالتوقف
لقد استهلكت الكثير من الكيلومترات الزمنية. لأكتشف أن المغزى في المشي ولا بأس بالتوقف، بالكثير من التوقف. وأن الانتظار فخ حين يجعل المشي روبوتياً. وحين يحول كل المعاني التي عُلقت به إلى هشيم. وبأن هناك قصصاً كثيرة طيلة مشينا ولا يهم إن أوصلتنا أم لا، ولكنها بالنهاية تحمل أحداث وأشخاص وشعور ومعنى. وأدركت بأن كلنا ننتظر وننتظر وننتظر. دون أن نعي وننتبه بأن غالباً قصص وروايات الانتظار تنتهي دون أن يأتي المنتظر، وبأن المنتظر كان سراب رسمته دواخلنا الحكاءة. ففي رواية صحراء التتار انتظر دروغو قرابة الثلاثين عاماً. ورواية في انتظار البرابرة عاش الشعب في خوف واذعان لأنهم ينتظرون. وانتهت الروايتين في انتظار مطبق ولم يأتي التتار ولا البرابرة.
وفي الختام: للأنا التي كانت تنتظر، للأنا التي في الحلم. لو كنت أعلم أن المغزى في المشي لأبطأت خطواتي. لتحسست الرمل والماء، لملأت رئتاي بالهواء. لاستشعرت دقائق الكون بأذنين مصغية وعينين متأملة. لما خشيت التوقف استعجالاً في المشي، وربما لجلست قبل أن تتيبس ساقاي. لتوقفت لغضبي وحطمت الأشياء ولم اكترث لترتيبها، وصرخت، صرخت بقوة حتى آخر نقطة غضبٍ داخلي، ولم أُصمت ذلك بابتسامة استعجالاً في المشي. لجثوت على ركبتاي حتى آخر قطرة دمع ولم امسحها استعجالاً لألحق خطواتي. لخضت معاركي في وقتها.. ولم أؤجلها لأن علي أن أركض لاهثه. لما فقدت اللذائذ المنتاهية الصغر، مقابل أشياء أخرى. لمشيت في كل شعور حتى أصل نهايته. فحينها، حينها فقط، إن أغلقت عيناي سأرى ذلك النهر، النهر متعدد الأسماء، لا يراه سواي.
للاستماع للحلقة:
https://www.brainandpaper.net/podcast/episode/c4a54527/