top of page

نمر به أم يمر بنا؟..




نستأنس به حيناً ويخيفنا أحياناً. نشعر بندرته ونشعر بوفرته.. رغم ثباته، هو كومة من الأضداد، ما يجعله كمقطوعة موسيقية لا نمل سماعها ولا نكف عن تخيل إيقاعاتها.. حدث وطلبناه أن يتوقف، ومراتٍ لم نطق صبراً أن يُعجل خطواته ويمشي سريعاً.. سألناه كثيراً واستنطقناه باحثين عن الكثير من الأجوبة.. وكم تم إلصاق الأجوبة به، فكان الجواب لكل شعور نريد رحيله ونسيانه.. لذلك تساءلنا حوله، وربما وقفنا أمامه وواجهناه، وربما خشينا ذلك.. الوقت.


هل تمنيت يوماً أن يقف الزمن؟ تقف عقارب الساعة عن الدوران ويختفي صوت الثواني.. ربما لأن اللحظة جميلة لدرجة اكتفائك بها عن كل ما مضى وكل ما هو آتٍ.. وربما لأن ما سيأتي بعد هذه اللحظة آخر ما قد تود حدوثه. وربما لأنك ما عدت تحتمل دقات الساعة المستمرة التي تذكرك في كل مره بما فقدت، بما يجب، بما كان لابد أن يكون، بكل الأشياء التي عليك فعلها... هذا الخيار الأخير قد حدث سابقاً، وبالتحديد في الخامس عشر من فبراير عام ١٨٩٤، في نهارٍ غائم كان هناك شاب اسمه مارشال بوردين يمشي متوجهاً للمرصد الملكي في بريطانيا والذي كان قد بُني قبل عشر سنوات كمركز رمزي وعلمي لوقت الساعة القياسي عالمياً (توقيت غرينتش). مارشال كان يحمل بيده قنبلة، حاول تجهيزها قرب المرصد ولكنها انفجرت بيده انفجاراً حاداً أدى إلى وفاته بعد ثلاثين دقيقة فقط دون أن يكون قادراً أن يشرح أو يُفصح عن نواياه. ولكن أظهرت التحقيقات بأن مارشال حاول تفجير الوقت كعمل ثوري رمزي. ولم يكن الوحيد تلك الفترة، بل حدث تدميراً للعديد من الساعات العامة في باريس وبومباي... حادثة غريبة فعلاً حين نسمعها الآن، في حقبة نبدو فيها مهووسين بالوقت. رغم إن البشر يحبون استقبال كل جديد لم يألفوه بعد بالثوران والاعتراض، وهذا يُفهم. ولكن السؤال: ما الذي في الساعة لتثور ضده؟ هل يمكن أن يكون لعلاقتنا بالوقت جانب سلبي مثلاً؟.. لحظة، وش علاقة البشر بالوقت؟


في حين قد حُمّلت السعادة بكل أوزار أفعال البشر. كانت هي النهاية المبتغاة لكل فعل، هي الغاية. وفي حين أنه يُعتقد بأن كل ما فعلوه البشر مدفوع بها، إلا أني أرى أنه قد يكون كل ما فعلوه البشر غالباً، وبطريقة أو بأخرى، مدفوع بالوقت.. أعتقد بأنه في العمق هو ذلك العنصر الغائب عن الوعي الذي يقف خلف أفعال البشر وقراراتهم.


مذُ أن وُجد الإنسان وهو في صراع مع الموت والخلود. يجوب الأرض باحثاً عن عشبة الخلود مثل جلجامش. وأعتقد بأن كل تلك المحاولات قد أنجبت الفن. بدايةً بكل تلك النقوش التي ملأت الكهوف والتي مفادها (لقد كنا هنا) (هذا نحن). هل يمكن أن يكون ذلك كله مدفوع بالوقت؟ لم يكن الوقت كافياً لاستيطان حضاراتهم وترديد أسمائهم وتأمل لوحاتهم وعزف موسيقاهم، أراد البشر عمراً آخر يتردد به كل ذلك. وأظن بأن هذه النزعة تسكن الفنان أكثر من غيره. لذلك يمكن أن نقول بأن الوقت هو السبب الخفي أو أحد الأسباب خلف ظهور الفن. أوجد البشر تلك العشبة ولذلك نردد المقولة "هزمتك يا موت الفنون جميعها".. وليس الفن وحسب


بل من جانب آخر في حياة البشر وتطورهم، في الثورة الصناعية واستبدال البشر بالآلات، ثم ثورة التقنية وتسهيلها لمهام كثيرة يقوم بها البشر. كل ذلك أيضاً كان مدفوع بالوقت.. الغرض منه توفير وقت فراغ أكثر للإنسان خلال يومه. وفعلاً حالياً يشهد البشر وقت فراغ أكثر من أي عصر مضى. ولكن الغريب بأنه حالياً يبدو بأن البشر مشغولين أكثر من أي وقت مضى ويبحثون عن الوقت ربما أكثر من أي وقت مضى. ففي حين قضى البشر سابقاً وقتاً كبيراً في القلق حول الخلود والبقاء، بدى بأن البشر حالياً يمضون وقتاً أقل في قلقهم بهذا الشأن ويُصرف وقتهم غالباً في السعي وراء الأشياء والغوص في عالم الرغبات. رُبطت جودة الوقت بالإنتاجية في عالم يزخر بالماديات حتى أصبحت تمثل قيمته، ولإدراك تلك القيمة المرسومة والمزعومة أصبح كل شيء متاح كل الوقت، لأن الانتاجية أصبحت رديفاً لقيمته.. بينما قيمته الحقيقة بقيت ضبابيةً بعض الشيء. وهذا يفسر ندرة الوقت رغم وفرته.


الوقت هو شيء تجريدي غير ملموس، لذلك فإن الإنسان يدركه على هيئة حدث وشعور، وليس على هيئة دقائق وثوانٍ مجردة من كل شيء. وهذا ما يفسر لحدٍ ما حنيننا الدائم للماضي لما يمثله من ألفة وأمان وخوفنا من المستقبل بتمثيله للمجهول. ولذلك فإن الوقت يخضع للتحيزات الفكرية والتأثيرات الاجتماعية والثقافية، وبالطبع لتصنيفات البشر وقوالبهم الجاهزة التي يعشقونها. والتي تنهكنا في أحيانٍ كثيرة. من كيف لابد أن تقضي يومك وبأن بهاؤه في زحامه، إلى الوقت المثالي لأحداث من المفترض أنها تخصك أنت وحدك. تعاريف كثيرة تحيط بنا من مؤيدين للسرعة والركض واللحاق بالركب وآخرين مولعون بالبطء والتوقف وتنفس الحياة. وكلٌ يدافع عن جانبه. ونخاف.. نخاف أن تمشي الأيام بصورة بعيدة عن تصنيف اليوم المثالي، نخاف أن تنقضي مرحلة دون أن تحمل الصفة التي أُطلقت عليها، ألا يكون عقدنا الثالث مرحلة ذهبية مثلاً. ولكن ربما لم نُسأل من قبل متى يحيا الوقت بنا، ومتى نحيا نحن برفقته. ربما لم يخبرنا أحد بأن كل شخص يرى الوقت بطريقة مختلفة، يفضل الوقت بطريقة مختلفة، ويدرك الوقت بطريقة مختلفة. بالنسبة لي أؤمن بأن كل شيء في هذه الحياة (غالباً منعاً للتعميم) هو كومة من الأضداد، يستقيم باتزان أضداده. ورغبتك بأن يحمل ضدٌ واحد دون آخر تنزع منه سمة الحقيقة. وكل شيء غير حقيقي يفقد جماله وبهاؤه مهما بدى كاملاً.

بالنسبة لي أؤمن بأن كل شيء في هذه الحياة (غالباً منعاً للتعميم) هو كومة من الأضداد، يستقيم باتزان أضداده. ورغبتك بأن يحمل ضدٌ واحد دون آخر تنزع منه سمة الحقيقة. وكل شيء غير حقيقي يفقد جماله وبهاؤه مهما بدى كاملاً.

ولكن، كيف تدرك أدمغتنا الوقت؟.. إلى الآن العلماء لا يعلمون أي جزء في الدماغ يتعامل مع الوقت، ويتوقعون بأن التعامل معه لا يتم في جزء محدد وإنما منتشر في أجزاء عديدة وتشمل: الذاكرة والانتباه ومنطقة اتخاذ القرارات ودراسات حديثة كشفت تدخل وتأثير المشاعر.. يعني تقريبا كل الدماغ يشترك في إدراك الوقت وتقدير المدة الزمنية.


وبالنسبة للوقت الحالي أو اللحظة الحالية وإدراكها، فإننا ندركه كوقت حالي خام إن صح التعبير لمدة ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ فقط.. أما الباقي يكون تحديث بتدخل ذكريات الماضي وتوقعات المستقبل. مثال لتتخيل العملية: حين تستمع لمقطوعة موسيقية لأول مره فإنك تدركها كنغمات جديدة لمدة ثانيتين، بعدها تتدخل الذكريات لنغمات سابقة استمعت لها في إدراكك لهذه المقطوعة الموسيقية بالإضافة إلى توقعاتك للنغمات التي ستستمع إليها.


لذلك يمكنك أن تنظر للوقت كالموسيقى. فالمقطوعة السهلة المتوقعة في نغماتها، ستمل الاستماع لها سريعاً، ستوقفها أو ربما تتركها تستمر بالعزف دون أن تدركها، تمر وتنتهي دون أن تدرك بأنها انتهت.. وكذلك الوقت حين تدعه يمر بك لا أن تمر أنت به. وإن كانت المقطوعة صعبة جداً فسوف تستسلم ولن تستمع إليها لأنك ببساطة لا تفهمها.. وكذلك الوقت. أما المقطوعة التي تجمع بين الاثنين، تكون سهلة متوقعة حيناً وأحياناً صعبة تفاجئك بين حين وآخر بنغمات لم تتوقعها، ثم تريحك بأخرى كنت قد ألفتها. وكل مره تستمع إليها تشعر بأن هناك شيء جديد تستمع إليه وتستمتع به.. حين تمر أنت بالوقت، بالأيام لا أن تدعها تمر بك، أن تعرّفها لا أن تعرّفك، أن تعيش فيها لا أن تحيا بها فقط.


وبسبب طريقتنا هذه كبشر في إدراك الوقت، برؤيته على أنه تغيير، ويعتمد على الحدث، نشعر بسرعته حيناً وببطئه أحياناً، نراه مرات قصيراً وأخرى يكون أكثر طولاً. يعتمد هذا الشعور على الذكريات والانتباه والعمر والجديد والروتين. فكل وقت تكون فيه منغمس بأي شيء يصرف انتباهك عن الوقت سيبدو وكأنه سريعاً، وكل وقت لا يوجد فيه ما يشتت انتباهك عن الوقت سيكون أكثر بطأً. وكثرة الأحداث تعطي انطباع بطول المدة، فالسنة المليئة بالأحداث تُشعرك بأنها أطول من أخرى كانت فارغة منها. ولا سيما الأحداث الجديدة وهذا بدوره يقل مع تقدم العمر حين تأخذ التجارب شكلاً أقرب للروتين منه للجديد. فتكون السنة بالنسبة للكبار قصيرة نوعاً ما مقارنة بالطفل الذي يرى إجازة الصيف مثلاً وكأنها استمرت عمراً. ولذلك كانت السنة برفقة الجائحة بطيئة وبنفس الوقت تبدو قصيرة.


ورغم أن الوقت هو ذاته والأيام هي ذاتها، إلا أننا نحب الاحتفاء بالبدايات. نحب البدايات لأنها تشعرنا بأنها تمحو ما قبلها، وبأنها بيضاء نقية، تسمح لنا أن نبدأ من جديد. أن ننسى وصمة التجارب السابقة بأخطائها وأن نتيح الفرصة لولادة تجارب أخرى يحفها الأمل. لذلك وضع البشر بداية ونهاية للأسابيع والأشهر والسنين. لذلك نحتفي بيوم ميلادنا وفيه بالتحديد تكثر تساؤلاتنا حول الحياة وخطواتنا القادمة كما فعلت شخصياً بفترة ليست بعيدة وبالتحديد في السادس والعشرين من يونيو. ولذلك نحتفي بالسنة الجديدة ونضع الخطط مثل كلمة دايت اللي تكون من الأعلى بحثاً في قوقل بداية كل سنة، ونمارس بعض التقاليد والطقوس مثل ما شربتوا قهوة حلوة هاليومين.


البشر هم الكائنات الحية الذين يملكون حرية روحية.. بمعنى لا يُفرض على الفرد من يجب أن يكون أو ماذا يجب أن يفعل. لذلك دوماً ما يكون هناك سؤال ضمني أو ربما صريح حول ما نقدره وما الذي يستحق فعله في وقتنا.. هذا السؤال الملح الذي يقبع خلف كل فعل بأضداد قراراته، نعم ولا، الآن أم غداً، أتوقف أم أكمل.. هذه التساؤلات حول ما يقدره الإنسان وما يجب أن يفعله بوقته تكون لها أهميتها لأن الإنسان يدرك بأن حياته محدودة، وقته محدود. ولكن لو فرضنا بأن لديه وقت غير محدود يعيشه فإن تلك الحاجة الملحة لفعل أي شيء ستكون غير مفهومة بالنسبة له... وهنا أحدد أكثر الجملة اللي ذكرتها بداية الحلقة باعتقادي أن الوقت خلف كل شيء،، وأقول محدودية الوقت.


في نظرة الإنسان للوقت أو Time Perspective وهي دراسة لكيف يقسم الإنسان جريان التجربة الإنسانية إلى أطر زمنية مختلفة أو frames تلقائياً وبلا وعي. هذه الإطارات الزمنية تكون مختلفة تبعاً للثقافات والشعوب والطبقات الاجتماعية والدرجة التعليمية وحتى الإنسان نفسه. وبلا وعي يكون الإنسان متحيز لإطار دون آخر وهذا بدوره يؤثر على اتخاذه للقرار. أبسط مثال عليه هو التجربة الشهيرة للمارشملو مع الأطفال (هل تأكل حبة مارشملو الآن أو تنتظر وتحظى باثنتين؟) هذه الإطارات ثلاث: ان كان ما يدفعك هو وضعك الحالي، استماعك لصوت جسدك ورغبتك الحالية وربما البيئة الحالية المحيطة فأنت immediate oriented بمعنى مدفوع بالحاضر. وإن كان ما يدفعك أو يمنعك ذكريات الماضي مثلاً تقول سويتها قبل وما ضبطت ليش أعيدها فأنت past oriented أما إن كان ما يدفعك هو المستقبل وغالباً يرافقه تضحيات مثل الأطفال اللي قرروا ينتظرون عشان يحصلون حبتين مارشملو فأنت future oriented. ولكل نوع جانب سلبي وجانب إيجابي، بمعنى إما توجهك سلبيته أو توجهك إيجابيته.


مذُ أن وُجدنا على هذه الأرض ونحن في سباق محموم مع الوقت، تأصل دواخلنا بطريقة لا نعي بأنه برفقة كل خطوة نقرر المضي فيها. وبسبب محدوديته قد عكس البشر أجمل ما فيهم، وربما أيضاً أسوأ ما فيهم. هناك جملة للباحث الأمريكي جيرمي ريفكين يقول: كل إدراكنا لذواتنا والعالم يتم بواسطة الطريقة التي نتخيل ونفسر ونستخدم بها الوقت. وعليه فإن إدراك الوقت يختلف حسب الفترات التاريخية والعمرية والبنية الاجتماعية والسياقات، وبالتالي فإن القيم المنسوبة للوقت تعتمد بشكل أساسي على السياق. مثلاً: في الوقت الذي تم فيه تحطيم الساعة أعتقد بأن السياق كان مقرون بالطبيعة لذلك ثاروا لأنهم لم يريدون أن تقرر الساعة متى ينامون ومتى يأكلون بل أجسادهم. وحالياً أعتقد بأن السياق هو الإنتاجية والربح كثقافة غربية عُممت على العالم، وعليه فإننا نقرر قيمته من عدمها. لذلك أعتقد بأن كل ما يربطنا بالوقت هو حدث، وكل حدث يخضع لحكم البشر ونظرتهم وتفكيرهم وبالتالي تحيزاتهم وتصنيفهم. وما يقلقنا كبشر هو أن لا ننتمي، أن لا نكون ضمن نحن معينة أو ضمن دائرة معينة. وكل ذلك ينعكس بطريقة أو بأخرى على رؤيتنا لذواتنا، على نظرتك لصورتك الحالية لنفسك، وإن فكرت ستجد صورة الآن محدودة جداً للدرجة التي تتحكم فيها صورتك عن نفسك في الماضي وصورتك عن نفسك في المستقبل معتمداً على الذاكرة والخيال.. ولكن، هل بالضرورة أن تكون كل تلك التأويلات والتصورات والأحكام حقيقية؟


وفي الختام: الوقت أحياناً يكسرنا وأحياناً أخرى وكثيرة يبنينا. ليس لقوة خارقة يمتلكها، ولكن لأننا بشر، ندركه بأحداثه، بما خلفه فينا من شعور. بذاكره نسلمها زمام الأمور. بماضي يتلاعب بنا كما يشاء، وتوقعاتٍ آتيه نكسبها قوة الحقيقة.. ونخاف.. نخاف أن يمضي دون حدثٍ يذكرنا به، دون أثرٍ يذكره بنا. نخاف أن يمضي صامتاً هيبةً من محدوديته فنريد أن نملأه بكل شيء، أن نملأه بنا لا أن نمتلئ به.. فامتلاؤنا به يجعلنا أحياء لكننا لم نعيش.


الوقت تجربتنا الفردية الخاصة جداً، حق امتلكناه ووهبته لنا الحياة.. وعليه، يحق لنا إدراكه كيفما نشاء والشعور به كيفما نريد.. لا يحق لبشر أن يُشعرنا بفواته ما لم نشعر نحن بذلك، أو يخبرنا بانتهاء مرحلة لم تنتهي داخلنا بعد، أو بضرورة دخول أخرى لم نفتح لها أبوابنا.. نحن من نرسم القيمة الأسمى لعيشه والحياة في تفاصيله.. نحن فقط.

125 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page