كيف ترى ماحولك؟
Updated: Dec 15, 2019

يقول نجيب محفوظ: كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذى، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان، كيف نضجر وفي الدنيا من نحبهم، ومن نعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يعجبون بنا.
فهل هذا هو العالم؟
ما جذبني في كلمات نجيب محفوظ أنها تتضمن الطريقتين اللتين ننظر بها للعالم، كأشياء مادية، وكمكان للتفاعل والتعاطي – سأعود لهذه النقطة لاحقاً- ولكن أريد أن أسأل: كيف تنظر أنت للعالم؟
منذ فترة بت أفكر وأتأمل في هذا السؤال: كيف أرى العالم؟ وأدركت بأن عيني وسيلة للنظر وليس للرؤية، ويداي وسيلة للمس لا الإحساس، وإنهما (الرؤية والإحساس) يكمنان بمكان أعمق. فكيف نرى العالم؟
العالم مكون من الكثير والكثير جداً ولا نرى سوا جزء بسيط منه رغم اعتقادنا بأننا نرى كل ما فيه، العالم مليء بتفاصيل ندركها وأخرى لا ندركها أو لا يمكننا إدراكها، ولكننا نعتقد بأننا نرى الوجه الحقيقي للعالم وبأنه يظهر لنا نفسه كما هو، بينما في الحقيقة هناك أوجه كثيرة معقدة للعالم ولطريقة نظرتنا له. كيفية رؤيتنا للعالم هي شيء معقد جداً بل أن من أصعب الأشياء التي يتعامل معها الدماغ هو الواقع، وفي المقابل فإن الدماغ معقد جداً أيضاً لذلك نحن بحاجه لتبسيطه لفهمه وهو بحاجة لتبسيط الواقع أو العالم ليفهمه. ولهذا فإن مما يتساءل حوله الدماغ ليس ما يراه بل ما يتجاهله بمعنى أنه يقول: يا ترى مالذي علي تجاهله؟ والإجابة هي تقريباً كل شيء، فنحن تقريباً Rational Blind ودوماً ماتقتصر رؤيتنا على جزء بسيط من مجمل الصورة، ولكن ماهو؟
إن اتفقنا أن العالم مليء بالأشياء ونحن لا نرى سوا عدد بسيط منها، إذاً مالشيء الذي نقرر أن نراه؟ واذا اخترنا الشيء الذي قررنا رؤيته، فكيف سنراه؟
ففكرة رؤية جزء بسيط من صورة أشمل وأعقد ليست حسية أو عقلية فقط، وإنما جسدية أو فيزيائية أيضاً. حاول الآن النظر في المكان الذي أنت فيه إن كان غرفتك، مكتبك، سيارتك، أو خارج منزلك بصحبة كوب قهوة، ستلاحظ بأن عينيك تنظر من زاوية محدودة لا تلتقط أقصى اليمين أو أقصى اليسار مثلاً أو أن ترى ما خلفك مثلاً، وحتى إن وسعت نظرتك في كل اتجاه ستظل رؤيتك محدودة رغم كثرة التفاصيل والمعلومات التي من الممكن رؤيتها، كـ: تفاصيل ورق الشجر المحيط بك، نقشة ورق الحائط أمامك، نسيج القماش الذي بجانبك، وملامح العابرين. فالدماغ في هذه الحالة يريك الشيء الذي تحتاج رؤيته لتقوم بشيء آخر. يريك الشيء حسب رغبتك في استخدامه، وحسب احساسك نحوه، فهذا يحفظ طاقتك وطاقة دماغك بأن ترى تفاصيل لست بحاجتها.
هذا يقودنا إلى أن هناك طريقتين أو رؤيتين للعالم ولكل طريقة أسلوبها ومنهجها، وأنت بحاجة للطريقتين لرؤية ما حولك والعالم. الأولى: هي أن العالم مكون من أشياء مادية، وتكون جواباً لـ من ماذا يتكون العالم؟، الثانية: رؤية العالم كمكان تتعاطى وتتفاعل فيه، وتكون جواباً لـ كيف تتصرف في هذا العالم؟. في الحالة الأولى تكون العلاقة بين الأشياء المادية ورؤيتنا لها غير ثابته ولمستويات مختلفة يحكمها عدة أمور كاستخدامنا له والمعنى أو القيمة التي تحمله بالنسبة لنا، ولكن طريقة رؤيتنا للشيء لا يعني بالضرورة حقيقته الفعلية. أما في الحالة الثانية وطريقة تفاعلنا فهناك عوامل كثيرة جداً ومعقدة تحكمه منها اشتراك الماضي والمستقبل في تحديد الآن ما يجعل للذاكرة دور مهم في ذلك. فهناك فرق بين أنواع الذاكرة: الأولى ما يسمى بـ representation memory وهي حين تتذكر شيء من الماضي كحدث أو مشهد يمر بذاكرتك، والثانية: ما يسمى بـ procedural memory وهي معرفتك لطريقة عمل الشيء مثل كيف تمشي، تكتب، وتركب الدراجة. ولكل من الذاكرتين نظام مستقل فحين كنت رضيع مثلاً تتكون عندك الذاكرة الثانية وليس الأولى لذلك لا تملك ذكريات عن نفسك في ذلك العمر. وحين تبدأ تكبر يتم إدراج الثقافة والبيئة من حولك في الذاكرة الثانية أيضاً حسب طريقة حركتك مع من حولك، نظرتك، حديثك، ابتسامتك، وتفاعلك معهم وتفاعلهم معك ودون أن تشعر بأن كل ذلك يتم نظمه وإدراجه فيك ليشكل نظرتك وسلوكك. وذلك يفسر حين تتصرف وفق ثقافة البيئة التي أنت فيها دون أن تفكر، وهذه نظرة Piaget. فـ باتحاد هاتين الذاكرتين وهاتين الرؤيتين يكون كل ما تمر به يترك أثره وبصمته في رؤيتك لما حولك والعالم كحديثك مع من حولك ومن تواجه وحتى الغرباء، تجاربك التي مررت بها ومن خلالها، وحتى الأغنية التي رافقت موقف أو الرائحة التي كانت بصحبته. لذلك فأن نظرتنا للعالم من حولنا لا تقصر على مجموعة من الأشياء المادية فقط، ولا وفق ثقافتنا فقط. ويبقى للمسألة جوانب أوسع وأعقد. فكيف ترى ما حولك والعالم؟
وفي الختام: نظرتنا للعالم عميقة جداً تشبه تأصلنا فيه، هذه النظرة قد تتغير تدريجياً مع السنين وقد يأتي موقف ليقلبها رأساً على عقب، قد يغيرها موقف عميق وقد يؤثر عليها طقس مثلاً، قد تْحكم امساكها بثبات وقد تظهر أمامك من زوايا لم تتوقعها. ولكن مهما اختلفت زوايا رؤيتنا تبقى لـ تخبرنا كم كبرنا، كم تعلمنا، كم عشنا. ويبقى العالم يملك هذه الزرقة في سمائه، وهذه الخضرة في أرضه، وهذا الإيمان في قلوبنا نحوه.