top of page

ثرثرة من العزل المنزلي

Updated: Apr 8, 2020



استيقظت في ساعة باكرة هذا اليوم -وكل يوم في الحقيقة. فلقد حرصت في مرحلة العزل المنزلي أن يبدأ يومي باكراً. لا أعرف ما الذي دفعني للحرص الشديد بأن يكون وقتي في النهار أطول، ما أقضيه في النور أطول، ما اسمع فيه ضجيج السيارات وحركة العابرين أطول- والحمد لله أنني فعلت. ربما ذلك يشعرني باستمرار الحياة بصورها المعتادة. وبعد أن فتحت عيناي واستقبلت يوماً جديداً بفضل الله، قمت بفتح النوافذ جميعها، رحبت بالنور، واستنشقت نسمة يومٍ جديد. فلقد تخليت عن عادة النظر لهاتفي كأول فعل أقوم به بعد الاستيقاظ حرصاً بأن لا أتقاطع مع أي خبرٍ مزعج في ساعات يومي الأولى وأتمنى أن تستمر هذه العادة الجديدة. ثم، وأثناء قضائي لساعة هدوئي المفضلة اليومية بصحبة كوب القهوة، قضيت وقتاً في التفكير العميق والذي أعقبه بحثٌ مطول ضمن زوايا الشبكة العنكبوتية. كان السؤال الذي أشعل شرارة التفكير هو: ما الذي أشعر به؟ رغم كوني أقضي الكثير من الوقت في المنزل بطبعي، ورغم حرصي على أفعال وتجنبي لأخرى في هذه المرحلة، لماذا تراودني مشاعر أفهم بعضها وبعضها لا أفهمه أو ربما أتجاهله؟ ومن هنا بدأت أفكر: ما هي المشاعر التي قد يشعر بها كل شخص وأي شخص بما أننا تحت ذات الوضع العام؟


بماذا نشعر؟


قد تشعر بمشاعر متضادة كثيرة، قد ترتفع حيناً لتشعر بأنك في أتم السيطرة على وضعك ويومك، وبدافعك الكبير للعمل والإنجاز، وبأن تفاؤلك في أبهى صوره وامتنانك في أجمل حله. وقد تهبط لحدٍ يجعلك تفقد شهيتك للحياة، تفقد رغبتك في عمل أي شيء، ورغم وجود الوقت والإمكانية إلا أنك لا تريد، لا تريد أن تتحدث مع أحد، لا تريد أن تعمل، لا تريد أن تبذل أي مجهود حتى ولو كان فكري.. ببساطة تشعر أنك أنهكت. وعلى صعيدٍ آخر فأنت لا تنفك تٌحكّم مشاعرك وتحكم عليها، تكبح جماح كل شعور سلبي قد يراودك من حزن وألم وأسى بسبب توليدها لشعورك بالذنب. لماذا أحزن وفي الجانب الآخر من أنهكهم هذا المرض وسلب أرواحهم؟ لماذا أحرن وهناك من لا مأوى له أو بالكاد يجمع قوت يومه؟ وأمام سطوة المجهول ومواجهة الجديد تحاصر عقلك العديد من الأسئلة، لمتى ستستمر هذه المرحلة؟ متى ستعود الحياة لسابق عهدها؟ وهل ستعود؟ وتعود للوراء لتفكر بالخطط التي رسمتها، عن عملك، دراستك، مشروعك، ماذا عن كل هذا؟ وتنغمس في تأمل هذه المرحلة، ما الذي تحاول أن تخبرني به؟ هل علي العمل أم الراحة؟ هل علي التفكير أم الهروب؟.. فما هذا الخليط من المشاعر؟


أفهم مشاعرك


كان من ضمن ما تقاطعت معه خلال ساعات بحثي أثناء تفكري هو سلسلة Stay Connected التي تقدمها ميل روبنز ومن ضمنها مقابلتها مع David Kessler. فلقد كان لوصفه اليد في إدراك هذه المشاعر. يقول ديفيد بأن ما نشعر به هو تعريف أو وصف لأعراض كلمة واحدة وهي Grief أو الحزن. وهي ذات المشاعر التي تشعر بها عند فقدك لمن تحب وفجأة. فجميعنا فقدنا الحياة الطبيعية، فقدنا عشرات الأشياء والتي بإمكاننا تعدادها مهما كانت صغيرة، من ساعتك اليومية التي تقضيها في النادي، أو مقهاك المفضل الذي اعتدت العمل فيه، أو زيارتك لأهلك وأصدقائك، عملك، أو حتى فكرة أن تعيش بلا تأهب دائم وحذر. ففقدننا لروتين اعتدنا عليه، لحياة تغيرت فجأة، لأشياء لم نكن على استعداد لفقدها ودون إنذار مسبق وشعورنا بالعجز أمام كل هذا التغيير هو من يولد كل تلك المشاعر، مشاعر الحزن Grief. فيعرف الحزن على أنه فقدان شيء لا تريد فقده أو غير مستعد لفقده. فكل هذه المشاعر من شعورك بالحزن بسبب الفقد، العجز أمامه، إنحصار دورك أو مسؤولياتك، وشعورك بالذنب أمام كل شعور سلبي، وتجاهله وكبحه، وطأة إطار الاستغلال المثالي للمرحلة والإنجاز المكثف، التوتر الناتج من مشاعر الخوف من الفوات أو الـ FOMO. كل هذه المشاعر السلبية هي من تنهكك وتسلب طاقتك لذلك تشعر بعدم نشاطك وعدم قدرتك على العمل، وقد تميل للكسل أكثر والخمول. فالإنهاك غير مرتبط فقط بالجسد، فالمشاعر تُنهكنا أيضاً. الأهم هو أن كل ما تشعر به طبيعي. والحل هو أن تفهم شعورك وتسميه وتعرّفه وتسمح لنفسك أن تشعر به ثم تتعامل معه.


اسمح لنفسك أن تشعر


يقول ديفيد: You cannot heal what you do not feel بمعنى أنك لن تستطيع أن تُشفى من شيء لا تشعر به. فاسمح لنفسك أن تشعر بكل شيء لكي تستطيع أن تُشفى منه وتتخطاه. نشعر بالخوف ولكن نشعر بأنه لا يجب علينا الخوف، نشعر بالحزن ولكن هناك من حالهم أسوأ، فلا نسمح لأنفسنا أن تخاف، أن تحزن، أن تغضب. لذلك تكون نفوسنا محملة بأنصاف المشاعر.


صحيح بأننا تحت ذات الظرف ونواجه نفس الجائحة ولكن لكل منا حياته وظروفه المختلفة. فلا تحصر مشاعرك ضمن الصمود والقوة والإنجاز. لا تحصر مشاعرك ضمن تخطي الأزمة بأكبر قدر من الكتب والدورات والعمل، لا تحصر مشاعرك ضمن الإيجابية وتمنع البقية. بل اسمح لنفسك أن تشعر، اسمح لقلبك أن يخاف، أن يحزن، أن يفقد. لذلك لا بأس أن تشعر بأن قواك قد أنهكت، لا بأس أن تشعر بالملل، لا بأس أن تشعر بالقلق والخوف، لا بأس أن تقضي ساعات لا تعمل فيها ولا تنجز بل أن تفرج عن حزن بداخلك لتستطيع أن تودعه لأنك بعد التفريج ستنتقل لمرحلة التقبل. فيقول ديفيد بأن مراحل الـGrief ست وقد لا تشعر بها تباعاً أو كاملةً وإنما عليك أن تفهمها لتكون قادر على التعامل معها وهي: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، القبول.


عليك أن تعي بأن تجاهلك لمشاعرك ليس نجاتك بل اعترافك بوجودها وسماحك لنفسك بالشعور بها. فلماذا تنكر وتتجاهل احساسك ثم تستمر تتساءل ما الذي يحدث لي؟ ما خطبي؟.. لذلك من الأفضل أن تعرف ما تشعر به وتسمح لنفسك أن تشعر به دون حكم عليه أو تعديل وتسميه ثم تتخذ رد فعل معين تجاهه. شعورك لا يعني تقليلك من حزن الآخرين بل سيشعرك باكتمال مشاعرك ويجعلك قادر على العطاء بدعم ومساعدة من حولك من أسرتك وأصدقائك.


ماذا يمكن أن تفعل؟


نحن في مرحلة نعايشها للمرة الأولى، استفزت أدمغتنا وجهازنا العصبي والمناعي واختبرت مشاعرنا -ولكنها ستمضي. أؤمن باختلافنا كبشر وأنه أحد أوجه الجمال في عالمنا. لذلك معالجتي لحزني تختلف عنك، مواجهتي لأزمة ما تختلف عن مواجهتك. فقد يواجهها شخص بالعمل المستمر وآخر بالراحة التامة، قد لا تمضي ليلة شخص بلا فيلمٍ ينسيه الواقع وقد لا تمضي ليلة آخر بلا ملاحقة أخبارٍ تشعره بأنه على قدرٍ من السيطرة، قد تكون الكتب هي الملاذ وقد تكون الرياضة، قد تكون قطع من "التشوكليت" درعاً نفسياً حصيناً وقد يكون هذا الدرع لآخر هو نظام غذائي صارم. فليس هناك صواب وخطأ، هناك نفوس بشرية مختلفة. ولكنني أؤمن بأننا نشترك جميعاً في كلمة واحدة وهي: المعنى. هذه الكلمة هي طوق النجاة الذي يجعلنا نتخطى أي أمر وكل أزمة. إيجاد المعنى. فأوجد لنفسك المعنى الذي يجعلك تتخطى هذه الأزمة. ويختلف من شخص لآخر، فقد يكون لحظات تصنعها خلال هذه المرحلة، وقد يكون ما تراه في نهايتها. المعنى هو السؤال العميق الذي طرحته على نفسك مراراً وتكراراً خلال هذه المرحلة، هو امتنانك لنعمٍ فقدتها، هو تأملك التغيير حولك، هو لحظات صغيرة صنعتها، هو رؤيتك في نهايتها، هو معايشتك لهذه الرحلة بغرابتها ودروسها والمجهول بها، هو الطريق الذي تسيره تجاه نفسٍ رسمت ملامح اختلافها وحياةٍ مٌلئت بتوقعات أحداثها، لتصافحها بأمل.

فيقول ديفيد:You are gonna either have post-traumatic stress or post-traumatic growth إما أن تنتهي هذه الأزمة مخلفه فيك توتر ما بعد الصدمة أو نضج ما بعد الصدمة.


وفي الختام: منذ أن بدأ الأمر يتخذ منحى جدي، وحين أدركت بأن الأمر لن ينقضي بعد عدة أسابيع وإنما يحتاج لوقتٍ أطول، توصلت لقناعة بأن أصل لطريقة تجعل اليوم يمضي بسلاسة لا أن يمضي على أكمل وجه. أن يمضي بسلاسة تعني إن كان يحتمل أن يمضي بعمل فسأعمل، وإن كان يتطلب أن أقضيه صامته فسأصمت. فلقد قمت بتجربة العديد من الأمور كالجميع، دخلت المطبخ وجربت عشرات الوصفات، قضيت الوقت أمام نتفليكس، لعبت "الكيرم" بعد انقطاع لسنوات، وقمت بتعديل أثاث الغرفة. توصلت لهذه القناعة بعد أن راقبت مشاعري بين تأنيب عدم استغلال الوقت في العمل والقراءة والإنجاز تارة، وبين مطالبة استغلاله في الراحة تارة أخرى، بين التواصل والعزلة، بين الارتفاع والهبوط، بين العمل والخمول، فأدركت أن الحل يكمن في المنتصف، وبأن كل الاحتمالات واردة. ففي هذه المرحلة ليس عليك أن تكون منجزاً، ليس عليك أن تكون مخترعاً أو أديباً، عليك فقط أن تكون بخير.


187 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page