.. صندوقك الخفي
Updated: Mar 3, 2020

حين قررت أن أبدأ بالكتابة، جلست على الكرسي أمام مكتبي الصغير وأمسكت بالقلم وإذ بأفكار عديدة تحاصر مخيلتي ولا علاقة لها بما أود كتابته مثل: ما رأيك بكوب ماء بارد، ماذا عن البريد الإلكتروني المؤجل إرساله، هل تشعرين بالنعاس؟، ولا علم لي بمصدر هذه الأفكار. الكثير منكم تعرض لهذا الموقف ولمواقف أخرى مشابهة مثل: أن يلفت انتباهك شيء ولا تعلم لماذا لفت انتباهك لهذه الدرجة، أن تسيطر فكرة على تفكيرك تجهل مصدرها، وأن تغضب أحياناً ولا تدري ما سبب هذا الغضب، أن تسمع كلمة أو ترى فعلاً فيستجيب جسدك بطريقة لا تفهمها (يقال بأن أدمغتنا من الممكن أن تنسى صدمة ما ولكن أجسادنا لا تفعل)، أن ترد بديهياً على كلمة ثم تفكر كيف عرفت الإجابة، أن تتحرك وتقوم بأعمال عدة ثم تنتبه كيف قمت بذلك كله دون إدارك مني. جواب هذه الحالات والمواقف كلمة واحدة وهي اللاوعي Unconscious والذي يسيطر على غالبية تصرفاتنا ويقال بأن النسبة تصل إلى 90%.
ولكن ما هو اللاوعي كيف ينشأ اللاوعي فينا؟
لنعود للبداية، منذ لحظة ولادتنا. لنقل بأنه عند هذه اللحظة رافق ولادتك صندوق فارغ تماماً ليتم ملؤه بالمعاني، والمفاهيم، والذكريات. وسيكّون بعد ذلك نظام متكامل تستقي منه نظرتك للأشياء والعالم، تطلق تبعاً له الأراء والأحكام، تشعر، تخاف، وتنجذب تبعاً له أيضاً. بل إنه في بعض المواقف لا يكون لديك الوصول التام له أو لا يكون للوعي الوصول التام له. وفي كثير من المواقف أيضاً يتولى هو مهمة ردة الفعل الأولى أو المباغتة تبعاً لسرعته ثم بعد ذلك يصل الموقف للوعي. ويقول فرويد بأن اللاوعي يتكون من جميع ما تكتبه النفس حيث أن اللاوعي من وجهة نظرة يعتبر واقعاً ديناميكياً مرتبط بالعلاج الاكلينيكي ويمكن للاوعي أن يصبح معلوماً للوعي عن طريق التحليل النفسي.
تُملأ المعاني داخل اللاوعي من مواقف، تجارب، كلمات، وذكريات:
منذ ولادتك يكون إدراكك للأشياء من حولك تبعاً للمعنى كما يقول Binswanger والمتخصص في علم النفس الوجودي. وغالباً أنت تستقي هذا المعنى من والديك. فمثلاً: تخيل معي أنك طفل لم يخطو بعد خطواته الأولى. تلعب وبجانبك والدتك، وإذ فجأة يركض باتجاهكم فأر. أنت فوراً في هذه الحالة تنظر لوالدتك لتحدد نوعية الحالة هل هي خطرة أم أمنة. إن صرخت والدتك فأنت تدون بأن الحالة (خطر) وأن صرخت عالياً وربما قفزت فوق الكنبة فأنت في هذه الحالة تدون بأن الحالة (خطر جسيم) وسيتم تكوين معنى لديك مفاده: الفأر = شديد الخطورة، ثم ربما فوبيا.
وللكلمات أيضاً ووصفها دور في صناعة المعنى لديك. ففي الاستعارات مثل تأثير الدافئ، الثقيل، العاطفة، والسلطة يقول عالم اللغويات George Lakoff أننا نُدخل هذه الاستعارات بسبب التجارب المكررة لها في حياتنا. مثلاً: يكون معنى العاطفة لدى الطفل في مدى الدفء أثناء حمله. فتتكرر هذه الاستعارة في عقله وتكون (العاطفة هي الدفء). مع الوقت تصبح استعارة مثبته في اللاوعي وهي التي تقودنا في إطلاق الأحكام واتخاذ القرارات.
ومن منطلق أن الذاكرة هي نحن، هي أرشيفنا وما نتكئ عليه لاسترجاع المواقف والتعرف على الأشياء، فإن لها النصيب الأكبر في اللاوعي. فـ للذاكرة نظام مستقل، بل أن لها ثلاث أنواع بأنظمة مستقله: فهناك نظام مستقل للذاكرة للعمليات أو الأفعال، وهناك نظام مستقل للذاكرة للخيال أو الذاكرة التصورية، وهناك نظام مستقل للذاكرة المعرفية والتي نحفظ فيها المعلومات مثلاً. وجود هذه الأنظمة المستقلة قد يفسر لنا وجود أشياء في ذكرياتنا لا نفهمها.
قسم العلماء عام 1900 اللاوعي إلى عدة حالات أو أشكال أو وظائف منها: أولاً: Conservative /ترتيب الذكريات، وهو حين تتذكر جزء من أحداث الماضي ولا تتمكن من تذكر البقية، أن تتذكر جزء من القصة. في الحقيقة عدم تمكننا من استرجاع ذكريات معينة قد يكون لعدة أسباب: قد نكون نسيناها فعلاً، وقد تكون مؤلمة الأمر الذي يمنع ظهورها، وقد تكون أعقد من أن تتمكن من استرجاعها. ثانياً: Dissolutive /وهو ما ينشأ بصحبة العادات. حين تقوم بعمل معين بشكل متكرر ليصبح عادة فيما بعد. ثم حين تقرر تغييره مثلاً تواجه صعوبة وتشعر بأنك لن تتمكن من ذلك. العادات قد تكون أفعال، أقوال، أو حتى أفكار. ثالثاً: Creative /وهو حين تقوم بعمل معين، أو مستلقي على سريرك وتنبعث في عقلك العديد من الأفكار، أو أثناء نومك على هيئة أحلام، أو حين تطرق باب عقلك فكرة تجهل مصدرها. وفي هذه الحالات المختلفة، أو المواقف، أو التصرفات والمشاعر والتي قد لا يتمكن الشخص من فهمها أو فهم مصدرها، فيلجأ لآليات دفاعية مثل: قمع هذه المشاعر والأفكار، تجاهلها، إظهار عكسها، أو إلصاقها في مسبب آخر.
وفي الختام: نظرتك للعالم في الحقيقة هي عملية لا واعية Unconscious Process بمعنى أنك حين تنظر للعالم لا تدرك لماذا تنظر له بهذه الطريقة (يمكن لنظرتك أن تتغير تبعاً لتغيرك). كما أن انتباهك لما حولك يتأثر أو لنقل يُسير من قبل قوى لا واعية.
أنت لست قطعة واحدة، وعقلك ليس قطعة واحدة، ولست على علم كامل بمكامنه بل أن له جذور عميقة توغلت في عمق حياتك وتجاربها وطياتها، جذور استقرت في ألم فأرغمته على النسيان، وجذور استقرت في دعم وثقة فحثته على الاستمرار. أنت قطع عديدة تستجمعها وتراها في نفسك ولكنك أحياناً تجهل مصدرها وربما سببها. أنت مجموعة عميقة من كل شيء مررت به، أنت تركيبة مميزة لا يشبهك سواك.