على بُعد مترين

اتذكر تلك الليلة التي خرجت فيها مع أخوتي لتجربة سينمائية فريدة اخترنا فيها فيلم Five Feet Apart. وبعيداً عن أنه قصة رومانسية تتشكل خلال رحلة مع المرض ككثير غيره إلا أن ما شدني هو فكرة أن تكون على بعد خمس أقدام من أشخاص تحبهم ولا تستطيع لمسهم أو حضنهم وطول حياتك بسبب هذا المرض أو هذه البكتيريا المسببة للمرض. أتذكر أيضاً بأن طريق العودة كان مليء بالأراء والنقاشات بيني وبين أخوتي حول هذه الفكرة. ولكن لم يخطر ببالنا أبداً أن نعيش تجربة كهذه ولو حتى لنصف يوم. بل أن يُعمم على العالم أجمع شعار التباعد ولو لفترة محدودة. صحيح بأن من عانوا من المرض أو حتى عايشوا الحجر الصحي كانوا الأقرب لهذه التجربة ولكن فكرة التباعد شملت العالم وأصبح العالم الافتراضي الملجأ الأقرب، من العمل والدراسة عن بعد، لقاء الأصدقاء عن بعد، وصباح العيد عن بعد.. نعم.. إنه وضع مؤقت، ووقتٌ سوف يمضي بإذن الله. ولكن كغيري دعاني للتفكر.. جعلني اتذكر حواراتنا ليلة متابعتنا للفيلم، واتساءل عن معنى اللمس؟ وضرورته وتأثيراته النفسية على البشرية، قراءات الدماغ له، وغيرها الكثير والتي سيكون هذا المقال حولها. وتساءلت أيضاً حول فكرة تخوف البشر من اجتياح الافتراضية. ووجدت بأن هذه التجربة جعلتنا نواجه حقيقة بأن البشر ليسوا على استعداد تام لهيمنة الافتراضية على الواقع، وبأن هذه التجربة جعلتنا نقف أمام كل مخاوفنا هذه لنكتشف ضئآلتها. فنحن كائنات اجتماعية بامتياز، محركها العاطفة، تشعر قبل أن تفكر، قبل أن تتحرك، قبل أن تقرر. ومهما حاولت فصل شعورك عن أي رد فعل، قرار، أو موقف فلن تستطيع. فلم يشتاق الإنسان خلال هذه التجربة للمس أحبته وحضنهم فقط وإنما اشتاق للمس الطبيعة، اشتاق للمس الحياة، دون حذر.. ودون حواجز.
لا نحيا دون يد حانية
بداية بحثي حول اللمس كانت مواجهتي لهذه الحقيقة: إن وفرت لطفلك المأوى والمأكل المناسب له ولكن منعت عنه اللمس (ليس هناك من يضمه أو يلمسه) والانتباه واللعب فسوف يموت.. نعم يموت.. وان نجى سيكون لذلك أضرار لن يُشفى منها ما حيي. فاللمس واللعب للطفل ليست خيارات، ليست رفاهية، أو أمور ثانوية، وإنما ضرورة حياة. هذه المعلومة تم إثباتها بعد تجربة تسمى بـ أيتام رومينيا في التسعينات تقريباً. حيث أتى متطوعين لإعطائهم 30 دقيقة في اليوم من اللمس والحب والذي عكس العديد من النتائج السلبية. ولكن ان جاء كل هذا بعد سن السنتين فسوف تستمر هذه المشاكل لدى الطفل أو ربما بعضها.
الحاسة الوحيدة التي لا نستطيع العيش بدونها هي اللمس. فإن ولدت وأنت أعمى أو أصم فسيكون لديك كامل القدرة لتطوير عقلك وجسدك، ولكن ان ولدت مثلاً بمرض (لنفترض وجود هذا المرض) يجعلك لا تستقبل اللمس في طفولتك فالأمر شديد الخطورة. فاللمس في داخله هو مشاعر والإنسان لا يحيى دونها وان أعتقد ذلك. فانعدام اللمس يؤدي إلى مشاكل في الإدراك والجهاز العصبي والهضمي، ضعف المناعة، اضطراب التعلق، وتأخر معرفي، ويؤدي أيضاً إلى ارتفاع نسبة السلوك العدواني والاكتئاب. بينما اللمس يخفض التوتر ومن خلال المستقبلات في الجلد والتي تُرسل رسالة إلى الدماغ لإفراز الـ oxytoein الهرمون الذي يخفض مستوى الـ cortisol الهرمون المسؤول عن التوتر. ويترجمه الدماغ على أنه ثقة، محبة، وسلوك إيجابي. كالمصافحة والربت على الكتف مثلاً تُعالج في الدماغ ضمن rewarding center أو المكافأة.
ماذا عن البالغين؟.. هم أيضاً تنطبق عليهم أثاره السلبية إلى حدٍ ما والإيجابية. فله أثاره على صعيد العلاقات العاطفية، العائلية، الأصدقاء، وأيضاً ضمن إطار الفريق في تحسين أدائه كالتجربة التي أُقيمت على فريق كرة السلة. حيث وجدوا أن الفريق الذي يتفاعل مع بعضهم البعض بعد تحقيق الأهداف والنقاط بحركات التشجيع مثل "high five" وغيرها في النصف الأول من المباراة، تكون نسبة فوزه وتحقيق نتائج أعلى في الجزء الثاني أكبر من غيره. كما أن أداء الفريق يتحسن أيضاً في الجزء الثاني من المباراة.
تجربة اللمس من الجلد للأعصاب للدماغ
هناك ثلاث حقائق حول اللمس وتجربتنا له:
١- نظن بأن اللمس هو إحساس واحد أو موحد ولكنه عبارة عن الكثير من الحواس تعمل سوياً. فحين تمعن النظر في قطعة من جلدك ستجدها تحتوي على الكثير من النهايات العصبية وكل منها تعتبر micro machine متخصصة في ترجمة نوع معين من المعلومات. فهناك نهايات عصبية للحرارة، وأخرى للبرودة، للألم، للحكة. وكل منها مقسم في أجزاء مختلفة من جلدك ولهذا تستخدم كل جزء من جسدك لما تريد إحساسه. مثلاً إن أردت قراءة حروف برايل Braille Dots فستستخدم إصبعك لأنه يحتوي على النهايات العصبية التي تمكنك من ذلك، ولا يستطيع جزء آخر من جسدك القيام به.
٢- لا يوجد إحساس (جسدي) دون مشاعر There is no sensation without emotion. وكل حس جسدي أو لمسة وكل ما تشعر به يذهب إلى عقلك وينقسم إلى قسمي: الأول يذهب إلى somatosensory cortex وهو يتعلق بالحقائق مثلاً يخبرك أي جزء من جسدك تم لمسه. والثاني يذهب إلى posterior irsula والذي يعطي كل لمسة شعور خاص بها من ألم ومحبة وغيره. مثلاً لو قام شخص بضربك على رأسك ضربة قوية ولنفترض جدلاً أن لديك مشكلة متعلقة بأداء الجزء الأول فستكون قادر على الشعور بألم الضربة ولكن لو سألك أحدهم أين تم ضربك فلن تستطيع معرفة الإجابة، ولو كانت المشكلة في الجزء الثاني فستعرف أين تم ضربك ولكن لن تستطيع الشعور بالألم الناتج عن الضربة كشعور.
٣- نحن في تكويننا نستجيب للأحاسيس القادمة من الخارج ونكبح الشعور الناتج من أنفسنا. فمثلاً يصعب علينا "دغدغة" أنفسنا.
تساؤل
أعتقد بأن اللمس بحد ذاته ثقافة تختلف من مجتمع لآخر حتى على صعيد العاطفة والعائلة. ورغم أن اليد التي تمسك بك، تربت على كتفك، تحتضنك، وتشد بها أزرك هي ركن من أركان العائلة إلا أن لكل مجتمع بل لكل عائلة فلسفتها الخاصة نحوها. لذلك سيكون تساؤلي على نطاق أوسع، حين تضع سياسة دولة قوانين معينة تحد العاطفة واللمس على صعيد بعض الأعمال مثل الحدود بين المعلم وطلبته الأطفال. بلا شك فإن التأثير الإيجابي لتعاطف المعلم مع الطفل كبير ومحدوديته قد يشكل بعض السلبيات للطفل اجتماعياً. فهل من الصواب أن تُمنع أي بوادر تعاطف بين المعلم وطلبته الأطفال في دول مثل أمريكا؟ أم من الصواب أن تكون الحدود أكثر اتساعاً؟
وفي الختام: هناك تفاصيل صغيرة قد لا نلقي لها بالاً إلا حين نفقدها ثم ندرك قدرتها وتأثيرها.
وسأختم بهذا المقطع من الفيلم الذي تحدثت عنه في بداية المقال.