عقلٌ ثائر ولعنة صمت
Updated: Jan 28, 2021

١
الآن، مضت بضعة أشهر من الصمت المطبق. تنظر فيها إلى السماء كل يوم، لقد كونت علاقة وطيدة معها – أحياناً قد تكون أكثر الأشياء بعداً هي من تملك القدرة على سماعنا بوضوح. هي لم تصمت عن الحديث بل صمتت عن كل المعارك المثارة داخل عقلها. كان عقلها دائم الثوران والمطالبة ولكنه في المقابل يواجه حديثاً لا يشبهه، ضحكة ساخرة، أو ضجيجاً من نوع مختلف، ضجيجاً يحمل كل شيء إلا ما يحمله هو. هل كانت تهرب أم هناك لعنة صمت كانت ترافقها؟
٢
قد يتخذ البشر الصمت كطريقة لتحليل العالم وفك رموزه. تصمت فتحلل تناقض هذا العالم، قسوته، عبثيته، أو ربما لطفه أيضاً. هي كانت تمارس ذات الطريقة.. تتوقف.. لا لا.. لم تكن تتوقف، فقد كانت تمارس الصمت دون توقف. صمت لا يشبه ذلك الذي يضعك في غرفة محكمة الإغلاق يكسوها لون واحد فقط، لا تسمح لأحد بدخولها ولا تخرج منها. فذلك النوع من الصمت يعني الكثير من الضجيج في الحقيقة. هل تعتقد بأن الضجيج قد يكون مصدرة العالم من حولك؟ يؤسفني بأن أخبرك بأنك مخطئ. فالضجيج أعلى بكثير داخلنا. هذا ما يخبرك به هدوء الليل في الحقيقة.
كان صمتها مختلفاً.. كانت ترقص وتطلق الضحكات، تتحدث كثيراً.. عن كل شيء، تسير كثيراً ولا تهدأ، وتستمع لموسيقى صاخبة والتي في الحقيقة عكس ما تفضله. ولكنها كانت صامته.. كيف؟.. لأنها تنطق بكل شيء عدا ما يمليه عليها عقلها الثائر.
٣
هذه الطريقة لمعالجة العالم تعتبر طريقاً فرعياً، الغضب هو الطريق الرئيسي. تمسكك بالطريق الفرعي يجعل عقلك في مرحلة ما يحرفك عنه للرئيسي وربما دون رغبة منك، دون إنذار مسبق. في كلمة تنطقها دون وعي وصرخة تطلقها لتسأل نفسك ماذا فعلت. فغالباً الطرق الرئيسية عابثة لا يحافظ أحد فيها على مساره الصحيح. لذلك اذهب لهذا الطريق واسلكه لنهايته، ففي نهايته تعود الأمور لنصابها ويتخذ كل شيء طبيعته، حتى السماء التي اعتدت تأملها ستصبح أكثر زرقه وقرباً. اذهب إليه طواعية، لأنك ستذهب إليه مباغته ودون رغبة.
٤
كانت بحاجة لأن تغضب. تحطم الزجاج، وتعبث بأماكن الأشياء ولا تكترث لترتيبها، أن تصرخ، تثور، أن لا تواجه العالم بابتسامة ولطف وإنما بغضب وتجهم.. ولكنها لم تفعل، لم تفعل ذلك أبداً في الحقيقة. ففي المرة التي أوقعتها فيها طفلة بعمرها عنوة (كلاهما لم يتجاوزا الست سنوات) حين كانت في الحديقة، اكتفت بنظرة هادئة وجملة قائلة: لماذا فعلتِ ذلك؟. بل في كل المرات التي كانت ترى فيها أناس يصرخون وبألفاظٍ بذيئة وآخرين يخدعون ويسرقون (يسرقون الوقت وليس المجوهرات والمال لأن الوقت أثمن ما قد يُسرق من أحدنا، وأولئك أشد اللصوص خطورة) ويخذلون ويخونون، كانت تفكر قائلة: يالهذا العالم الغريب؟.. ثم ماذا؟.. نعم بالضبط.. تصمت.
٥
هل علينا أن نكون كراماً للحد الذي يطبق الصمت علينا.. للحد الذي يجعل من صراخنا وحيدين بلا رفقة إلا السماء أمر شديد الصعوبة.. إنه لأمر عجيب. ولكن كل المسألة تتعلق بذلك الطريق الذي علينا أن نسلكه، وبكل خطوطه الفرعية وغير الفرعية، المرئية وغير المرئية، السراب الذي يبدو حقيقياً ويتلاشى كلما اقتربنا، والوجهات الأكثر واقعية التي ندركها ونراها رغم ضبابية الرؤية. ما الذي يجعلنا نحدد ذلك الطريق دون الآخر؟. ما الذي يجعلنا على ثقة تامة بجدواه؟. ألا يقول بول أوستر بأن عليك أن تتواجد في كلا الطريقين بذات اللحظة لتدرك أيهما الخيار الأفضل، وبأن ذلك مستحيلاً!
٦
من الذي وضع ملصقات كُتب عليها (هنا عليك التوقف) و (هنا عليك مواصلة المسير). في الحقيقة أن الجملة الأولى لا تواجهها كثيراً، فالجملة الثانية تحظى بشعبية عارمة (لقد تم الصاقها في كل زوايا الطريق، بل أنك لا تراها فحسب وإنما تسمعها على الدوام لأن الجميع يكررها على مسامعك). التوقف غالباً يُرى كخيار لا يمكن إتاحته. عليك أن تمشي وتمشي وتمشي. تمشي وبكل ما يعرضه لك الطريق من أحمال وكل ما تقدمة المحطات من أمتعة. أتدري ما المضحك، أنها تسمى محطات ولكنها ليست للتوقف. لا أدري لماذا كل هذه الرغبة في عدم التوقف ومواصلة المسير. أليس عليك ضبط الأمتعة، مراجعتها، تفريغ الغير ضروري منها أو ربما التخلص منه وتحطيمه.. لحظة.. أين علينا التوقف؟ ومتى؟
٧
كل تلك القصص كانت تُكسب عدم التوقف قوة خارقة يسعى لاكتسابها الكثير. يجعلك أقوى، لا تُمس، فولاذي القوام لا تُكسر. كان التحلي بذلك مغري ومغزى. فمارست هي ذلك، مارسته منذ سنواتها المبكرة حين كانت تلطخ ثيابها بقطع الكاكاو، مارسته حين واجهت أعتى مخاوفها، وحين كان صوت الكلمات يشبه صوت الطنين الذي يتلو انفجار قنبلة. مارسته حتى اكتسبت تلك التي يُدعى بأنها قوة خارقة أخيراً.. ولكن، الآن، عقل ثائر ولعنة صمت ترافقها. أرغمها جسدها على التوقف رغم احتجاجاتها -أجسدنا تفهمنا أكثر مما يمكننا توقعه، وإن لم ننصت لها تُرغمنا على الإنصات-. والآن وبعد أن أرغمها كل شيء على التوقف مازالت تقاوم ذلك وترفضه، ربما أصبح هذا الأمر عادة -فعاداتنا هي قوة عاتية تواجه حتى رغباتنا دون أن نشعر فهي تجيد التنصل من وعينا. هل عليها أن تستسلم أم تثور؟