كيف تجعل منّا الحكايات بشراً؟

في تلك الغرفة الهادئة كنا نجتمع أنا وجدتي، على ضوء أبجورة صغيرة. تجمعنا الأحاديث الطويلة التي في أغلبها كانت عبارة عن قصص. تنسج جدتي القصة تلو الأخرى ببراعة عالية تجعلني أنصت بتمعن وكأنني أمام مشهد مهيب أجمع قطعه بحذر. كانت قصص عن كل الحياة، نضحك منها حيناً ونتأملها أحياناً أخرى. لا أدري أكانت قصصاً حقيقية لأناس حقيقيين أم كانت ضرباً من الخيال. لم أكن أعلم بأنها أساطير قصها البشر في محاولة منهم لمخاطبة هذا العالم وأن منها عُرف الإنسان وعَرَف الكون، وبأني استمعت للكثير منها على لسان جدتي، ولست وحدي.
حين وُضع الإنسان في هذا الكون المترامي البالغ التعقيد، لم يجد سلاحاً لتفكيكه سوا القصص. أخذ يُفسر الكون بها ويتناقل معناه من خلالها بجمل تناسب مكانه وزمانه. لم يكن التعبير شخصياً بل كانت اللغة المستخدمة مجازيه، فشعر براحةٍ أنه لم يكن المعني الوحيد واكتسبت رسالته مساحة آمنه في نقلها. لذلك انبثقت الأسطورة من الجماعة. وقال عنها كارل يونغ بأنها نتاج لا وعي جمعي، وبأنها بحث في أعماق الإنسان كنموذج يٌعرف من خلاله كيف يفكر. فالذات هي مجموعة من كل شخصيات الحكاية. وكل تفاصيل الحكاية من شخصيات وبيوت وطرق وأماكن تلعب أدوراً في النفس البشرية بلا وعي.. وبوعي أيضاً.
الذات هي مجموعة من كل شخصيات الحكاية.
اللاوعي هو الوسيلة لفهم النفس البشرية كما يقول فرويد. وهو يُظهر نفسه دون إرادة منا ويعبر عن نفسه عن طريق كلمة نقولها وكأنها نُطقت بلسان غير لساننا، نوبة غضب تباغتنا لنسأل بعدها لماذا فعلنا ذلك، وحٌلم نصارعه لليلة كاملة. لذلك يقال: الحلم أسطورة شخصية، والأسطورة تنزع شخصنة الحلم. وأراه من أجمل وأذكى التعاريف. فالأسطورة تُقر بوحدتنا البشرية مهما اختلفنا، ومهما اختلف زمانها ومكانها. عرفنا صراع الإنسان مع الخلود في جلجامش، وحاجته للانتماء في the ugly duckling، وجنون البشر في اليس ان وندر لاند، وتناقضهم ولا منطقيتهم في الأمير الصغير. فارتباطنا بالقصص ليس عبثياً (اعتباطياً) ولا فجائياً بل متأصل فينا وممتد من فجر التاريخ.
ارتباط البشر بالقصص يأتي من حاجتهم لصناعة المعنى. خلق معنى لكل شيء هي حاجة أساسية للإنسان كالجوع والعطش. والتوصل لتفسير جيد لأمرٍ ما يُشعر الإنسان بالرضى. وكل شيء بالنسبة للبشر بحاجة إلى تفسير: سيارة مركونة بمنتصف الطريق، بيت كُسر زجاج نافذته، طفل يسير بلا والديه، تأخرهم بالرد عليك، وكل ما تمر به يحمل قصة لا تستطيع أن تكبح جماح عقلك لألا ينسجها ويتخيل تفاصيلها التي لا تعرفها أصلاً. نحن نقضي نصف ساعات يقظتنا نرسم الخيالات ونرى أحلام اليقظة، أي ما يقارب ثلث حياتنا على الأرض. وإن زدنا عليه وقت نومنا ونسجنا للأحلام، غير الوقت اللي نقضيه نسمع قصة أو نشاهدها، أو نقرأها، فما الوقت الذي نقضيه بلا قصص؟
بالقصص جبنا العالم، وصُدرت لنا الكثير من الثقافات وتأثرنا فيها، شعرنا بقربنا من بلدان معينة دون أخرى وكأننا شاركناهم القصة. بل إن القصة وصلت لأبعد من ذلك ولأبسط تفاصيل يومنا، وأثرت على خياراتنا في لبسنا، اكلنا، واسلوب حياتنا لأننا نبي نروي قصة معينة عن أنفسنا أو نكون ضمن قصة معينة حين يتم تصنيفنا. وإن أردت زراعة فكرة معينة في عقول البشر فأرضك الخصبة هي القصص، صغها على شكل قصة، وتصبح لديك القوة أن تؤثر على السلوك واتخاذ القرار. أو كما يقال من يروي القصص يحكم العالم. ويُقال: أنه لو فوت هتلر مشاهدة أوبرا رينزي لربما تفادى العالم الحرب العالمية الثانية والهولوكوست. هي مبالغة طبعاً ولكن هذا لا يلغي مدى تأثر هتلر وتبنيه لأدب فاغنر في أفعاله، لهذي الدرجة ممكن تأثر علينا القصص.
ولكن.. نحن نتحدث عن قصتك أنت بين كل تلك القصص، تلك التي تكررت أمامك وكأن الكون يريد أن يخبرك بشيء، تلك التي أضاءت عتمة لياليك، وتلك التي خرجت منها للحياة مختلف، والأخرى التي دُفنت داخلك وهي في أمس الحاجة لراوي.. نتحدث عن قصتك مع كل القصص، ولو اعتقدت بأنها بعيدة عن كل ما ذُكر للآن، فهي ليست كذلك. نتحدث عن حياتك العادية الغير أسطورية، عن عملك العادي وأصدقاؤك العاديين، عن روتينك البسيط من كوب قهوتك الصغير إلى ضجرك أمام الهاتف بكل ما يحمل من قصص. وحين تظن بأن فرط عاديتك هذه قد افلتتك من فخ القصص، ولكنها لم تفعل. عن سذاجتنا حين نعتقد بأنه يمكننا الإفلات من قصة، تجاهل قصة، عدم الوقوع بفخ قصة لمجرد أنها لم تْغلف بكتاب أو تْعرض في شاشات.. وعن اعتقادنا بأن اختيارنا لقصة ما يكسبها سمة الحقيقة.
في بداية الستينات كان هناك شخصين روسيين متخصصين في psychophysiological measurement والذي يْعنى بقياس ردات الفعل الفيزيائية للجسم لأي تأثير واللي تشير لكيفية عمل الدماغ. ومن التجارب اللي قاموا فيها أنهم يسمعون شخص مقطع صغير جملة واحدة مثلاً أو تون معين، ويكررونه لمرات عديدة بنفس الشكل. لاحظوا أن في المرة الأولى يبدي الجلد ردة فعل عالية تبدأ تخف مع التكرار إلى أن تنعدم. وتعود ردة الفعل العالية هذه عند أي تغيير بسيط يطرأ على الصوت حتى لو كان في وقت الصمت بين الكلمات. ومن هذه التجربة توصلوا أن الإنسان يكون صورة معينه عن العالم ويبدي ردات فعله إن حدث اختلاف بين هذه الصورة والواقع. واعتقد إنه بإمكاننا نطبق هالتجربة على جوانب عديدة في الحياة. فالبشر يتناقلون القصص ليس بدافع الترفيه فقط وإنما يعتمدون عليها في تفسير العالم، ليش؟ لأن عملية استيعاب هذا الكم من المعلومات والحقائق اللي يعرضها العالم على العقل تكون أسهل إن كانت على شكل قصة. لذلك قد تكون الحقيقة بالنسبة للبشر على هيئة قصة، وهنا.. أحياناً.. تكمن لعنة القصص. لأن تكرار القصص يشعرك بطبيعيتها واعتياديتها رغم أنها ليست كذلك. تلميعها والإفلات من ضرورة تسمية الأشياء بمسمياتها لا يجعل منها حقيقة لمجرد أنها غُلفت بقصة أُحكمت حبكتها. فقد يُفلت النبل من قصة جملت مسمياتها، ويضيع الأسى بين شقوق مشهدٍ تم تناقله بفخر. وقد تكون مجرد كذبة ولكن حبكتها وتكرارها اكسبها سمة الحقيقة.
قد يُفلت النبل من قصة جملت مسمياتها، ويضيع الأسى بين شقوق مشهدٍ تم تناقله بفخر.
لم تعد القصص محدودة المصدر وحيدة السمات، ولم يعد هناك تعريف واحد للحب مثلاً، أو النجاح، أو الفقد. أصبحنا في زحام من القصص والمعلومات والتعاريف أكثر من أي وقت مضى. وبين هذه الفوضى نضيع في تحديد أيها حقيقي، أيها نتبنى.. وأيها نحن. هذا الزخم المفرط من المعلومات والقصص ليس ظاهره سلبية بالمجمل ولكن في جانب منه قد يكون كذلك. لأننا أحياناً بالقصص نطمئن وبفوضاها قد نضيع.. لأن القصص تقدم لك تفسيرات، وهذا التوضيح يشعرك باستتباب النظام في العالم الذي تعيشه. ولكن فوضى القصص من حولك، أن يكون هناك ألف قصة وألف تعريف لكل شيء، وحين يرافقها لحظات اختلال توازنك أو مواجهتك للمجهول في حياتك يُشعرك بانعدام التحكم على ما تتبناه من قصص لتفسير هذا العالم. ضياعك وقلة تحكمك هذه، يجعلك تلجأ لأيدولوجيات معينه، لأنك بحاجة أن تكون ضمن إطار ما، وتلك الأيدولوجيات تكفل لك ذلك فتعتقد بأن روحك استقرت، والحقيقة أنها دُفنت.
طيب.. هل هذا يعني أن كل قصة تمر بها أو تراها بحاجة إلى تفسير. هناك تجربة لطيفة توضح ذلك. وضعوا مجموعة من الأطفال لمشاهدة فيلم كرتوني لاستنباط الحكمة خلف القصة. كانت القصة عن عدم السماح لكلب بثلاث أرجل باللعب، والحكمة هي تقبل الاختلاف. ولكن كانت إجابات الأطفال أكثر تفصيلاً مثل: اللطف مع كلبٌ بثلاثة أرجل. وهذا بالضبط ما نواجهه فيما نتقاطع معه من قصص في حياتنا. قد نخطئ في تحديد مستوى فهمنا، هل ننظر للتفاصيل أم للصورة الكبرى. قد نخطئ في تحديد القيمة من قصة ما. وقد نسرف الكثير من الوقت في محاولة فهم ماذا يحدث، ولماذا حدث. ونعلق في ركنٍ خفي يبعدنا عن واقع الحياة. نبقى عالقين في تساؤلات قصة مضت بينما العالم يستمر بالكبر. وتعرض الطرق نفسها أمامنا ولكننا نشعر وكأن ساقينا قد بُترت. ليست كل قصة تتطلب تفسير أو تحمل قيمة لابد أن نعرفها. قد تكون قيمتها لمجرد أنها حدثت. وقد تكون مجرد فرصة جعلتك تواجه الجانب العبثي واللامنطقي من هذا العالم. وفي كل قصة تواجهها تقف أمام خيارين: إما أن تبحث عن قدر أكبر من المعلومات والتفسير، أو أن تقرر أن تتوقف وتبدأ بالتصرف. انغماسك في البحث عن تفسير قد يكون جيد ويعلمك وقد يختبرك في زعزعة أشياء تصدقها، وقد يقودك في بعض الحالات لعالم مليء بنظريات المؤامرة. فعقولنا الحكاءة تحاول أن تقنعنا كما يقول غوتشل إن الأمور السيئة لا تحدث نتيجة لعوامل كثيرة معقدة بل لأن هناك أشراراً يطاردون سعادتنا وبأننا نستطيع هزيمتهم ان استعطنا قراءة القصة الخفية. ولكن أيضاً بالمقابل استعجالك بالتصرف قد يكون قفزاً متهوراً نحو النتيجة.
لحظة، لازم تعرف إن كل قصة رح تفسرها ودون أن تشعر وفقاً لما تؤمن به مسبقاً.. عشان ردة فعلك اللي سواها جلدك ترجع تستقر، أو ربما تنعدم.
ولكن.. ماذا عن قصصنا، حكايا أيامنا، كيف نرويها؟
قد تختبرك الحياة بقصة لا يستطيع جسدك الصغير تجاهلها أو فهم ملامحها ولم تتجاوز الرابعة من عمرك. وقد تباغتك الحياة بقصة تنسف تلك الصورة التي ظللت ترسمها عنها على مدى عشرون عاماً. تلك القصص هي التي تلتقطها ذاكرتنا حين ننوي سرد قصتنا حتى ولو لم نقلها بصوت مرتفع. تلك القصص التي نتظاهر بالحياة على حدودها وقد عنونا سردنا باسمها. كلنا لدينا تلك القصة التي نحن بحاجة لروايتها، قصة دفنتها أدمغتنا. هي مدفونة داخلنا.. نعم.. ولكننا نشعر بحملها فوق أكتافنا. ونظل نعيد سردها مراراً وتكراراً بصوت لا يسمعه سوانا. نعتمد في سردها على ذاكرتنا والتي نعتقد بأنها شريط فيديو يتم تشغيله وينقل الحدث كما هو. وننسى بأنها عبثية وانتقائية ومليئة بفوضى مشاعرنا وبأنها تستحضر كل ما يتوافق مع ما نؤمن به مسبقاً أو ما نريد الشعور به. وننسى بأن أدمغتنا تجيد تخبئة آلامنا ودفنها مانعتنا من الوصول إليها كي تحمينا. ما يجعل سردنا يحمل صورة واحدة مهما كررناه. لأننا كما يقال نتذكر ما عشناه لا لما عشناه فعلاً. ونخشى النبش عن صورٍ أخرى وسيناريو مختلف لأنه ينقلنا لمنطقة مجهولة لا نعلم ما سنواجهه فيها، ماذا سنكتشف عنما حولنا وأكثر ما نخشاه هو ماذا سنعرف عن أنفسنا. فنفضل البقاء في المألوف، في قصة ألفنا جوانبها، حتى ما تحمله من ألم ألفناه. فبحسب منطق العقل فإن معاناة مألوفة الجوانب أأمن من مجهول لا تٌعرف حدوده. ويبقى كل شيء مدفون هناك، في أعمق نقطة داخلنا، لأجل غير مسمى.
القصص تمنحنا فرصة خوض تجارب وعيش أحاسيس دون مخاطرة عيشها في الواقع.
ما رح نقول غير سردك تتغير حياتك رغم إنها جملة صحيحة. ولكن، عشان نكون حقيقيين وصادقين مع أنفسنا. صعب جداً نقنع عقلنا ينتمي لصورة لا يراها أو نجعله يصدق جانب آخر لم يظهر بوضوح أمامه. ولكن هناك ما يسمى بالاستشفاء بالقصص. عقولنا تتعامل مع القصص بنفس نظام المشاعر اللي تتعامل فيه بحياتنا الواقعية. بمعنى إن قرأت جملة عن القفز عالياً فستتفعل نفس المنطقة في دماغك وكأنك قفزت في الواقع. لذلك القصص تمنحنا فرصة خوض تجارب وعيش أحاسيس دون مخاطرة عيشها في الواقع. فاكتب قصتك وكأنها قصة خياليه، اكتب تلك القصة التي حدثت ودفنت داخلك، غير الأحداث، غير النهاية، غير ما تريد، ليس بالضرورة أن يقرأها أحد، وليس بالضرورة أن تصدقها، ولكنها تمنح عقلك مساحة آمنة للوصول لنقطه العميقة وإعادة الاتصال بها حتى لو أتت في إطار أحداث مختلفة أو مكان وزمان مختلف، وربما تمنحك القدرة على رؤية جوانب لم تكن تراها. تبدو فكرة اعتباطية، ولكننا نكتب قصصنا كل يوم في عقولنا دون أن نشعر. وإن لم تقتنع ولم ترغب بالكتابة فاقرأ الكثير من الروايات. الروايات الجيدة، والتي غالباً وللأسف تكون مترجمة للعربية وليست صادرة عنها.
وفي الختام: خطواتي الأولى في الحياة كانت تحمل انعكاس قصص جدتي، ومازالت. ثم أخذت القصص الأخرى حولي شيئاً فشيئاً تؤثر على موضع قدمي. ولست وحدي... كم مره رأينا أنفسنا بين سطور كتاب ما، كم مره شُرحت مشاعرنا بدقة في مشهدٍ على شاشة بلغة ليست لغتنا حتى، كم مره تسللت قصة إليك وجعلتك تضحك أو تبكي أو حولتك لعاشقٍ غاضب، كم مره أثرت القصة في خيار أو سارعت باتخاذ قرار، كم مره بنت وكم مره هدمت، وكم مره اكتشفت بأنها كائنٌ نزقٌ لعوب.. كم مره ذلك العطب داخلك أصلحته قصة.. احنا بسيطين لهذي الدرجة، للدرجة التي تؤثر بنا قصة، تحركنا قصة، وتربطنا قصة.. وطريقتنا الأقرب للتواصل.. هي قصة.