وقت، هروب، هدوء

هدوء
١.
كان لساعة قهوتي اليوم ملاذاً مختلفاً.. في الحقيقة أحب المحافظة على هذه الساعة خلال يومي كأساس لا يقوم إلا به. فلأرواحنا نقط ارتكاز تستند عليها حتى لا تُنفى بعيداً أمام أي عاصفة تواجهها. هذه النقط في ظاهرها قد تكون بسيطة جداً، كساعة هادئة برفقة كوب قهوة.
٢.
كان ملاذي هذه المرة هو اللاشيء، وهو الذي احتفي به حين أراه قد حل وسكنت روحي به. فعقلي عادة هو كومة من الفوضى، أُحذر من الغوص بها لأنك ربما لا تستطيع الخروج منها.. والحقيقة أنني الوحيدة التي غصت به. فيكون إسكاته مهمة صعبة لذلك فإن تقبله للاشيء دون مفاوضات طويلة وخطط لإقناعه في تأجيل تلك الفوضى بعض الشيء، وحين يتقبل الصمت والهدوء واللاشيء يعتبر أمراً يستحق الاحتفاء.
٣.
كنت صامته جداً (وأعني داخلياً، فالصمت الخارجي فعلٌ لا يكبدك العناء في تنفيذه، على الأقل بالنسبة لي)، عقلي لم تطرقه فكرة أو تساؤل أو خيوط تجره يمنة ويسرة بلا دليل يوجه خطواته.. كنت في حالة من العدم الذهني، وبدى عقلي مستمتع به وسكنت روحي في رحابه.. فأدركت بأن الهدوء نعمة، ولكن أن تستطيع روحك السُكنى به، باللاشيء، بلا حاجة إلى إلهاء وبهرجة وتشتيت، أن تطمئن في ظل ذلك الصمت.. هي أعظم العطايا.
الهروب
٤.
تذكرت جملة لـ Naval يقول فيما يعنيه: إن أردت قياس جودة حياتك فتوقف عن فعل أي شيء وراقب كيف يكون صدى ذلك وإحساسه بالنسبة لك.. وعليه فإني اعتقد بأن أرواحنا تهدأ وتسكن حين لا يكون هناك سبباً يدعوها للهرب.
لذلك أحياناً يكون الحل الذي نهرع إليه هو أبسط ما يمكننا فعله (الهروب) الهروب من ذواتنا أو ما يطلق عليه Escapism وهو الهروب المستمر من النفس عن طريق المشتتات.. أياً كانت.. قد تكون الانغماس في العمل والتخطيط، وقد تكون الاجهاد الجسدي، أو حتى الفكري في الانحسار في قوقعة معينة، أو قد تكون بالدوران في حلقة مفرغة من المتع الوقتيه.
وقد يكون أكثر ما يستدعي الهرب للبشر أن يكونو mismatched أو غير متطابقين مع معايير الشعور الأكثر احتفاءً في عصرهم. وحالياً أو بعصرنا هذا هو السعادة وكل ما يرتبط أو له علاقة بها أو يدل عليها من الحب والثراء والجمال والنجاح وغيرها. بينما مثلاً في القرن السادس عشر كان الشعور الأكثر احتفاءً هو الحزن.. فتخيل حينها كان أكثرهم حزناً أكثرهم فخراً.. لذلك هناك أشياء كثيرة لا ندركها تجعلنا نهرب أو نتمسك بشعور سكن داخلنا، وغالباً دون وعي. (هذه الفقرة من آخر حلقة للبودكاست.. يمكنك الاستماع إليها من هنا)
نحن نهرب حين لا نفهمنا، حين لا نستطيع أو لا نمتلك الجرأة في مواجهة أنفسنا، حين لا نكون متطابقين، حين لا نستطيع أن نمنع ما سكن دواخلنا، حين نكون بين كومة من مالا يشبهنا، حين لا تكون إجاباتنا ما نريد أن نسمعه.. ويكون الهروب رمادياً في الغالب، لا يكتسب لون واضح يسهل تمييزه. يتسلل على هيئات مختلفة دون أن ندركه. وحين ندركه ربما لا نستطيع الاعتراف به. يكون متحيزاً لمسميات نألفها ومتخفياِ خلف عناوين يؤنسنا سماعها، فنستقبله ونحسن استضافته ثم يصبح أماننا وأُلفتنا التي نخشى فقدانها
الوقت
٥.
تزجية الوقت أمر مربك، هل أنت هارب أم مستمتع. وحساب الوقت أمر مربك أيضاً، هل الوقت أم الشعور أم الحدث.
فيما يخص حسابه
هل يتم حسابه بتجاربنا أم بشعورنا أم بحقيقته. إن كان بحقيقته، فهل هو فعلاً حقيقي؟ إذاً لما تقدم وتؤخر امريكا مثلاً ساعة بين الصيف والشتاء؟ وإن كان بشعورنا فقد أقرت الدراسات بأن يمكن لمشاعرنا مثل الحزن والقلق الناجم عن جائحة كورونا مثلاً أن تشوه إدراكنا للوقت. لأننا لم نشهد الكثير من التغيير والوقت في الحقيقة ما هو إلا تغيير.
يقول Alan Lightman بأن هناك نوعين من الوقت: body time و mechanical time أما الأول فيعتمد على تفاعل الجسم وضربات قلبك، حين تأكل حين تنام وحين تتعب مثلاً. فأن كنت سعيد أو في حالة الـ flow فسيكون سريعاً، وإن كنت حزين أو تشعر بالملل فسيبدو بطيئاً جداً. أما الثاني فيكون العكس ويعتمد على الآلة ذاتها، لا يكترث بحالتك النفسية ولا بضربات قلبك. دوماً ما يكون بذات السرعة ولا يتأثر بالحالات الفردية. لذلك يقول الكاتب بأنه في أوقات راحته يحاول أن يكون تحت تأثير الـ body time ويحرص أن لا يرتدي ساعة ولا تكون متواجدة حوله. وأعتقد بأن ذلك ما جعل الشعوب قديماً تثور ضد الوقت (للمزيد اقرأ هنا)
وفيما يخص تزجيته
يقول الكاتب في هذا المقال (لقراءته من هنا)، بأننا نُحاصر في تقسيم وقتنا بين العمل والراحة ونتوه في موازنة تلك الكفتين، ما قد يقودنا للوقوع في فخ قتل الوقت الذي سرعان ما يلقي بظلاله الباهتة على وقتنا بأكمله فيفقد معناه وجودته وبالمقابل متعته. بل إن الكاتب نفسه قد تاه في تحديد ذلك. ففي عصرنا تبدو أوقات الراحة بنشاطاتها المختلفة أقرب للكسل ما قد يجعلك تهرب منها للعمل فتُنهك وتكون راحتك في نهاية المطاف أقرب للكسل منها للراحة.
ولكن ليس كل كسل قتل للوقت، وليس كل قتل للوقت فراغ. فقتل الوقت هو خدرٌ يشل أطرافك. يحرمك من رغبة القيام بأي شيء. وفي المقابل ليس بالضرورة أن يغلب وقت العمل على الراحة والفراغ أو العكس. فوقت العمل مدفوع بالنتائج، ووقت الفراغ مدفوع بالوعي. أعتقد هكذا يمكنك الموازنة دون أن تخدر نفسك.
٦.
ربما روحك تستحق أن ترى جميع الأضداد، للوقت والهدوء والهرب. لا أعلم لماذا دوماً تتملكنا رغبة عارمة في رؤية جانب واحد فقط من كل شيء. نخشى الجانب الآخر، نتجنبه، حتى لو لم نعرفه. فلا تُنهكها برغبتك في اللحاق خلف تصحيح الأشياء وكماليتها ومثاليتها. لا شيء مثالي، لا شيء.