بين شقوق الأبيض والأسود

في القرن السابع عشر، في بلدة صغيرة أُشتهرت بوجود جامعة يقصدها الكثيرين من كل مكان. في تلك الجامعة لاحظ مجموعة من الطلاب تغيب صديقهم لأيام، صديقهم الذي انتقل إليهم من مدينة أخرى. فقرروا زيارته للاطمئنان عليه. ووجدوه وقد أعياه المرض والحمى. استدعوا الطبيب الذي حاول معالجته مراراً ولكن دون جدوى. وحين يئسوا من شفاء صديقهم قرروا أن يعيدوه لبلدته ليموت هناك بسلام. بلدته التي تبعد فقط ٦٠ ميل أي ما يعادل ٩٧ كيلومتر تقريباً. ولكن المفاجأة كانت أنه بمجرد عودته لمدينته استعاد عافيته تماماً. واكتشفوا بأنه كان يعاني من أعراض جدية وخطيرة للـ Homesickness أو الحنين للوطن. وفي عام 1688 حين سمعت دكتور Hofer وآخرين بهذه الحالة أطلقوا على هذا المرض اسم Nostalgia أي الحنين لفقد زمانٍ أو مكانٍ ما. وكان آخر شخص توفي بسبب الـ Nostalgia هو جندي أمريكي شارك في الحرب العالمية الأولى في فرنسا.
بعده لم يمت أحد بسبب الـ Nostalgia أو ع الأقل لم تسجل حالة وفاة بهذا السبب. لماذا؟ لماذا فقد هذا الشعور جدتيه وخطورته، أو ربما لم يعد مرضاً؟ هل بسبب تطور العالم والاختراعات العديدة التي قللت سطوة هذا الشعور؟ أم أن الشعور نفسه تغير عبر التاريخ؟ أم أن شعور الـ Nostalgia قد أزيح من تطرف تصنيفه للأسود واكتسب ألواناً أخرى شاعرية ويُتغنى بها؟.. ولكن تخيل معي أن تموت أو تكاد تموت من شعور لا تعرف حقيقته. تشعر به ولكن لم يسميه أحد. أو تشعر به بصوره لا تشبه شعور غيرك به. وتصمت.
وقفت أمام المرآة متأملاً ملامحك وكأنك تراها لأول مره. هي ذاتها لم تتغير ولكنك حاولت رؤية الداخل من خلالها.. ربما انعكس عليها شيءٌ منه. من المؤسف أننا نقوم بهذه العملية مستعدين ومحاولين رؤية كل شيء. نمشي بخطوات متأنية متجهين نحو المرآة وننظر.. متفحصين، متأملين، ومدققين.. ولكننا لا نرى سوا انعكاس المرآة الجامد، لا نرى ما يراه الآخر.. لمعة أعيننا حين نتحدث عن شيء نحبه، وتلك الدمعة التي حاولنا اخفاؤها بخطوط ابتسامة مصطنعة، وضحكتنا حين ينبع صوتها من قلوبنا. لا نرى كل ذلك. لذلك أحياناً نقرر أن نرانا بعيون الآخر... أحياناً نسأله. ويحدث أن يحصرنا الآخر في كلمة واحدة رغم كل ما نحمل.. ونصدقه.... ونتساءل، رغم بساطة بشيرتنا ووحدة مشاعرنا إلا أنه وكأننا مجموعة من الألوان التي اختلطت وبصعوبة تفرق بينها. ورغم معرفتنا لذلك إلا أننا لا نكف سعياً لتطرف تصنيفها بين الأبيض والأسود. ناسين بأننا نحمل الكثير من المساحات الرمادية التي لم تُسمى بعد. وأن الأبيض هو نتاج الكثير من الألوان.
حين لا يكون هناك معركة ظاهرية تختبرك بها الحياة. أو ما تخوضه لم يتم تصنيفه على أنه معركة. حين يهدأ كل شيء ويبدو مستقراً. حين لا يطابق شعورك الكلمة التي لابد أن تنعكس عنه. حين لا تتسع كل تلك التصنيفات لتضم ما نشعر به. ان بقيت هناك مساحات رمادية نقف أمامها دون حراك لأننا ببساطة لا نعلم. حين نبحث عن صور الفرح المتوقع، والأسى المتوقع ولا نجده فينا. ونضيع في تحديد شعورنا وتسميته وربما نشكك في إقرار معناه وحقيقته. حين لا يكون الشعور إحساساً بل توقع، حين لا يعكس تعقيد دواخلنا بل منهجية كل ما حولنا. حينها تقف أمام المرآة وتسأل نفسك ما الذي تشعر به فعلاً؟ لماذا يبدو مختلفاً عما أُخبرت به؟ وتتيقن بأن هناك خطبٌ ما ولكنك تقرر لسببٍ ما بأنه ليس فيما أُخبرت به، بل بك وبما تشعر.
الفترة الماضية عايشت شعوراً مماثلاً. فتوقفت، تنفست، وقرأت كثيراً (لأن القراءة هي الهروب الذي يعيدنا إلينا). حتى تقاطعت مع مقال للكاتبة أليس ووكر تقول فيه: بأننا ننمو داخلياً لا جسدياً فقط. وبعدها بدى كل شيء منطقياً أكثر.
نحن نكبر.. تتغير ملامحنا.. تلك الكفوف الصغيرة تتسع، وتلك الأجساد الضئيلة تزداد طولاً.. وندرك ذلك كله. حتى إننا نلتقط الصور لكل مرحلة لنسترجعها لاحقاً. لكننا لا نلحظ بأن هذا الكبر والنمو الجسدي يقابله نمو غير مُعلن، لا ندرك مدى اتساعه. نحن نمو داخلياً أو روحياً أيضاً.
هذه المرحلة ليست سهله أبداً. وأكثر ما يربكنا بهذه المرحلة هو طولها، تساؤلاتها وضبابيتها وغموضها الذي يدفعك للجنون. تشعر فيها بحالة عدائية يُثار غضبك من أبسط الأمور وتنتابك نوبات انزعاج وربما بكاء غير مبررة. ثم تجتاحك نوبة ركود تطفئ بقدومها كل الألوان حولك. تبدوا ظاهرياً هادئ وصامت ولكن عقلك لا يهدأ داخلك وكل محاولاتك لإسكاته تبوء بالفشل. وقد تنزلق للاكتئاب. يبدو داخلك متأهباً وكأنك بانتظار شيء ما. وكأنك تنتظر رحلة بعيدة. حتى إنك تنظر للساعة وتحسب الأيام أكثر من المعتاد.. تحبس أنفاسك وكأنك تعبر عاصفة وغير متأكد من جدوى الخطوة القادمة. وأفضل ما قد يصف هذه المرحلة أنها مربكة. وأنت لا تعلم بأن كل ما يحدث من انزعاج هو من أعباء النمو، روحك تستعد لتصبح أكبر عما كنته سابقاً، ولا تعلم أن كل ما تشعر به هو ضمن أطوار عملية التغيير، حتى تمر بنص أو كتاب أو شخص يوضح لك ذلك ويمنطق ذلك الانزعاج الذي عايشته. تقول اليس ووكر في كل مرحلة نمو ستشعر بذلك، وشبهته بالبذرة التي تقاوم ضغط الأرض محاولة كسر قشرتها لتشق طريقها فوقها ناشره أوراقها، وبأن هذا الشعور لن يكون مريح أبداً. ولكن تزداد حدته حين لا تفهم ما الذي يحدث، حين تعايش شعور لا تعرف معناه. ولكن بفهمك ستبدو هذه المرحلة رغم عدم راحتها منطقية أكثر. وستدرك أن ما تعايشه يعدك للمرحلة القادمة من حياتك. وبعدها سيظهر أفق آخر من شخصيتك، أو كما تقول أليس ووكر نيو ليفل... وهذا كله ليس بالضرورة أن يتبع حدث سيء، بل قد يتبع حدث جيد كنت تنتظره، أو قد يحدث هكذا بلا سبب، مثل جسدك حين ينمو لأنه لابد أن ينمو.
أدركت بعدها بأن الحياة هي سلسلة من أعناق الزجاجة التي نعبر خلالها من حين لآخر. وبأن الشعور يكبر ويتغير كما ترفض أجسادنا ثيابها القديمة لأنها لم تعد تناسب حجمها. وبأن الشعور لا يحمل لون واحد ولا يحتمل تطرف التصنيف. وبأنك أحياناً لا تفهم ما تشعر به فكيف يخبرك الآخر بما تشعر أو ما المفترض أن تشعر به. أدركت بأن الشعور الإنساني مركب، ويمكن أن أشعر بمئة شعور لحدثٍ واحد. يحدث أن يخالط فرحي الكثير من الأحاسيس التي لا تمت للفرح بصلة. ويتسلل للأسى داخلي الكثير من الألوان التي لا تفهمها أنت. يحدث أن أحب وأكره.. يحدث أن أفرح وأخاف وأتردد وأقاوم.. أن لا تكون سعادتي صاخبة وإنما هادئة جداً ويتسللها الألم أحياناً. يحدث أن ينحرف شعوري وجداً عما شكله الوعي الجمعي عن الفرح والنجاح والحب والسعادة والجمال. أن لا يشبههم، أن تنافي تلك البرمجة المفروضة جوهر ما أشعر به. يحدث أن كل ما أشعر به، لا تراه، مهما حاولت رؤيته.
تحدث Malcolm Gladwell في كتابهtalking to strangers عن مفهوم الـ mismatched وأن البشر يواجهون مشكلة مع الأشخاص من هذا النوع. الـ mismatched هو الغير مطابق لتوقعاتنا أو للصورة الذهنية لدينا. مثلاً شخص هادئ صامت في حفل صاخب مثلاً ينافي صورتنا الذهنية عن المتعة، رغم انه ممكن يكون مستمتع جداً، وقس عليه الكثير. أوضح الأمثلة على ذلك واللي تكون من الأسباب اللي تخلينا نتبنى هذه الفكرة هي مسلسل Friends وما يشابهه. فكل شخصية من شخصيات المسلسل هي matched أو مطابقة، وكل شعور مطابق للمفردة تماماً وللمتوقع، ولا وجود لغير المطابق mismatched. فعندما تكون فيبي متفاجئة فإن فكها السفلي ينزل لتحت، تفتح عيونها بشكل كبير وترفع حواجبها. وحين يكون روس متحير أو مرتبك فأن كل ملامحه توحي بذلك. ويقول مالكلوم إنه جرب يشاهد حلقة يشوفها لأول مره بدون صوت وفهم كل أحداثها دون أن يسمع كلمه. وهذا شيء ينافي الواقع تماماً، نحن لا نمتلك تلك الرفاهية من الوضوح. والحقيقة أننا لا نستطيع قراءة مشاعر الآخر لمجرد رؤيته، بل ان البشر سيئين جداً في هذه المهمة وكل ما يتداول في الكشف عن الشعور ظاهريا غير حقيقي. بل إنك أحياناً تخطئ في قراءة نفسك، فكيف الآخر.
ولكننا نقع كثيراً في فخ الـ mismatched ان طبقناه على مشاعرنا. فإن لم يطابق شعورنا الصورة المرسومة وما يُشاع عنه فإن ذلك يكون رديفاً للعزلة وقمع شعورنا والتشكيك به وبصحته. حين لا تكون أجمل لحظاتنا ناصعة البياض، وحين لا تكون آلامنا كالحة السواد نشكك في صدق شعورنا. ونتجاهل حقيقة أن هناك ٣٤ ألف شعور أحصاه وسماه العلماء نجابه عبثيتها ونتوه في تحديدها مراراً.
رؤية مالكلوم غلادويل في كتابه ذكرتني بمسلسل Big Bang Theory الأصدقاء الفيزيائيين اللي رغم رجاحة عقولهم لم يساعدهم ذلك في معرفة الناس. لذلك يقرر شيلدون أن يختبر أحد اختراعات MIT بعد أن سمع أنه يمكن لهذا الجهاز أن يساعده في قراءة الناس من خلال تعابير الوجه، وبالتحديد العضلات حول العينين والفم. والحقيقة أنه في الواقع الكثير من البحوث أقيمت في هذا المجال مجال الـ emotion detection technology لحل أحجية الشعور الإنساني، ولم ينجح أي منها. وتقول بروفيسور Lisa Barrett ليست المشكلة في عدم نجاح تلك المحاولات وإنما في ارتكازها على مبدأ سطحي يُعتمد عليه في تعريف حقيقة الشعور. لأن الفكرة التي تدّعي بأنه بإمكاننا الكشف عن المشاعر من خلال تعابير الوجه أو أي علامة فيزيائية هي خطأ فادح... وقد تكون كل تلك المحاولات اعتمدت على نظرية شهيرة قبل ألفين سنة تقول بأن كل المشاعر يمكن ضمها تحت ست مشاعر أساسية (الفرح والحزن والخوف والغضب والدهشة والاشمئزاز). ومشكلة هذه النظرية أنها تصور المشاعر كـ reflex انعكاس أو رد فعل لمؤثر خارجي، لتحمينا من الأذى. وهذه الصورة لا تعكس المشاعر بشكلها الكامل وبتفاصيلها الأخرى المهمة. فالجانب الـ physiology جداً مهم ولكنه ليس السبب الوحيد خلف ما نشعر به.
المشاعر ليست رد فعل بسيط.. وإنما أنظمة معقدة للغاية تستجيب للعوامل البيولوجية التي ورثناها، وللثقافة التي نعيش بها. هي ظاهرة معرفية لا تتشكل فقط تبعاً لأجسادنا وإنما أيضاً تبعاً لأفكارنا التي اكتسبناها ومفاهيمنا التي آمنا بها ولغتنا التي نتحدثها. هي نتاج كل ذلك... لذلك فأن إدراكها يتبع تعقيد تكوينها.. وإن الإقرار بوحدة لونها رغم تشعبه، ومنهجية معايشتها رغم اختلافه، يجعلنا كالغرباء داخل أجسادنا. كمن يحاول رفض شيء لا يستطيع إبعاده فيسجن فيه... وفي هذه الحالة يكون الحل الذي نهرع إليه هو أبسط ما يمكننا فعله (الهروب) الهروب من ذواتنا أو ما يطلق عليه Escapism وهو الهروب المستمر من النفس عن طريق المشتتات.. أياً كانت.. قد تكون الانغماس في العمل والتخطيط، وقد تكون الاجهاد الجسدي، أو حتى الفكري في الانحسار في قوقعة معينة، أو قد تكون بالدوران في حلقة مفرغة من المتع الوقتيه.
لذلك قد يكون أكثر ما يستدعي الهرب للبشر أن يكونو mismatched أو غير متطابقين مع معايير الشعور الأكثر احتفاءً في عصرهم. وحالياً أو بعصرنا هذا هو السعادة وكل ما يرتبط أو له علاقة بها أو يدل عليها من الحب والثراء والجمال والنجاح وغيرها. بينما مثلاً في القرن السادس عشر كان الشعور الأكثر احتفاءً هو الحزن.. فتخيل حينها كان أكثرهم حزناً أكثرهم فخراً.. لذلك هناك أشياء كثيرة لا ندركها تجعلنا نهرب أو نتمسك بشعور سكن داخلنا، وغالباً دون وعي.
اللون هو المبدأ الأول للمكان.. ويال بهتان روحك حين تصبغها بلون واحد.. وداخل كل لون قصة.. ويال ملل قصتك حين تكسبها ذات اللون. فلا تشكك في حقيقة شعورك حين يخرج عن النص، نص لم تكتبه أنت.. يقال: يمكنك إدراك حقيقة عميقة من خلال الخاصية القائلة بأن نقيضها هو حقيقة عميقة أيضاً.. لذلك فإن بعض مشاعرنا تصبغ العالم بلون واحد يسهل تمييزه مثل الرعب مثلاً. ولكن غالباً، فأن مشاعرنا تحتشد وتتنافس معاً ليكاد يكون من الصعب تمييزها وفصلها عن بعضها.. بعضها من الصعب ملاحظته أو معرفة وجوده حتى مثل الـ nostalgia على بُعد أقل من مئة كيلومتر. وبعضها نحاول الهروب منها ومجاهدتها وإنكارها. وبعضها لا تعرف ماذا تسميه، وبعضها قد لا يوجد له مقابل لغوي أو مفردة تترجمه.. أياً كانت، هي شعور حقيقي، فأحسن احتوائه.
وفي الختام: يقول نيتشه هناك ثلاث مراحل لتطور العقل.. وإن رأينا العقل روحاً مثل ما يراه ديكارت، فإن الروح تكبر وتنمو مثل ما قالت أليس ووكر في بداية الحلقة. يقول نيتشه في مراحل تطور العقل بأن العقل يكون جملاً ثم أسداً ثم طفلاً. يكون الطفل آخر مراحل التطور لأن الطفل طهر ونسيان وتجديد ولعب ودهشة وإقبال على الحياة... ويكون الجمل أول المراحل لأن الجمل يفتش عن أثقل الأحمال ليحملها، ويحملها. وحين يندفع إلى الصحراء ينقلب الجمل أسداً (ويكون الأسد المرحلة الثانية) يطمح الأسد في نيل حريته وبسط سيادته، ويستعد لمكافحة التنين والتغلب عليه.. التنين هنا كلمة (يجب عليك) والأسد يريد أن ينطق بكلمة (أريد).